بلقيس شرارة
الشاعر بلند الحيدري من الأشخاص الذين كان لهم أثر في تجديد الشعر العربي، بل كان بلند في مقدمة الشعراء في هذا المجال، وفي الوقت نفسه ثار على الأعراف الأجتماعية، وحاول كسرها لكي ينعتق من قيود المجمع.
ولد بلند الحيدري لعائلة كردية غنية، تنقل في بداية حياته بين المدن الكردية، السليمانية واربيل وكركوك بحكم عمل والده كضابط في الجيش، وانفصل الوالدان وكان بلند متعلقاً بوالدته، وانتقلت العائلة الى بيت جدتهم بعد أن توفيت والدته في عام 1942. لم ينسجم بلند في محيطه الجديد الذي اتسم بالقوانين الصارمة، فترك دراسته قبل أن يكمل دراسته المتوسطة في "ثانوية التفيض"، وخرج من البيت مبتداء تشرده.
في سن السادسة عشر، عندما توفي والده عام 1945 لم يسمح له أن يسير في جنازته، نام تحت الجسور لليالي في بغداد. وصادق الشاعر حسين مردان، لكن رغم ذلك كان حريصاً على تثقيف نفسه فكان يذهب الى المكتبة العامة ويقضي ساعات، فدرس الأدب والتراث وعلم النفس، تأثر في البداية بالشعراء الرومانسيين، كما كان من المعجبين بعالم النفس "فرويد"، وبعد ان قرأ الفلسفة الوجودية التي تركز على الحرية والرفض والسأم التي تبناها لفترة، فقرأ هاديغر وسارتر وكامو، وبعدها قرأ عن الماركسية والديمقراطية. وانتقل إلى المرحلة الواقعية والإلتزام السياسي، لكنه ظل مؤمناً باللبرالية ولم ينتمي إلى حزب.
في تلك الفترة من حياته، كان عمي مرتضى شرارة تلميذاً في كلية الحقوق، وتعّرف على بلند الحيدري عن طريق الشاعر بدر شاكر السياب، كانوا يلتقون في الصيف في الجزرات التي تظهر في نهر دجلة، وكان بلند في تلك الفترة وجودياً، بل تشرب بالفلسفة الوجودية، كما كان بوهيميا في انتقاء الحياة التي عاشها آنذاك، وطغت على سمعته من انه لا يتقيد بالأعراف الأجتماعية.
وقد كتب عنها:
(كان المنفى قائما في داخلي منذ أن وعيت نفسي كائناً شعرياً وكائناً سياسياً في آن واحد.. والغربة بهذا المعنى كانت في داخلي، غربتي عن عائلتي البرجوازية المتشبثة بالحكم البائد، مما دفعني يومذاك بالهرب من داري في قصر العائلة لأتشرد في شوارع بغداد. وانام على ارصفتها بصحبة الشاعر حسين مردان. ولكي أجسد ثورتي الحقيقية على عائلتي البرجوازية، فقد وضعت كرسياً ومنضدة متهرئة لأغدو كاتباً للعرائض. أمام بوابة وزارة العدل التي كان خالي داود باشا الحيدري يشغل منصب الوزير فيها).
لذا لم يدعوه والدي لكي يشارك مع الشعراء الاخرين الذين كانوا يحضرون الندوة الشعرية يوم الخميس في دارنا، حتى بعد أن صدر ديوانه "خفقة الطين"، عام 1946، ولم يبلغ العشرين من العمر. اصبح ديوانه وثيقة ريادية لحركة الحداثة برمتها. فليس هنالك وزن أو قافية التي كانت تعتبر مقياساً إلى الشعر، بل كان نمط جديد من الشعر أطلق عليه "الشعر الحر". لم ينظر إلى بلند في البداية كرائد أو أن له دور مهم، ولكن فيما بعد أصبح لديوانه أثر مهم في تحديث الشعر، واصبح من رواد الشعر الحديث. وأهدى نسخة منه إلى عمي مرتضى، وكان الديوان ينتقل بين أيدينا رغم صغر سننا.
ويقول بلند عنه:
(هو أول ديوان يصدر لي في العراق ويحمل توجهات جديدة، ولكن ليست غريبة عن العالم العربي). كان هنالك تأثير للشاعر عمر أبو شبكة ومحمود حسن إسماعيل، وإلياس أبو شبكة. (كلهم أثروا في تجربتي الأولى، وإن كانت غير واضحة، لكنها عبّرت بلغة مختلفة عن اللغة السائدة).
ومن تلك القصائد التي تجلى بها تحرره من القافية والوزن، في ديوان "خفقة الطين"، (مضغ الحزن شبابي يافعا/ فامضغي بالشهوة القصوى مصيري/ لست أهوى جنة الله... ولا/ ولا أتمناها رجاء في شعوري/ لا... ولاأخشى سعيرا/ وصدى سخرية الحزن المرير/ فدعي الظن الذي قدسته/ نصباً/ في معبد الوهم الغرير).
ألتحق في تلك الفترة التي كان بها مشرداً، "بجماعة الرواد" من الفنانين والنحاتين، واسسوا جماعة "الوقت الضائع" كان من بين اعضائها جواد سليم ونزار سليم وفؤاد التكرلي وأكرم الوتري وغيرهم. واستلهمت اسمها من رواية "البحث عن الوقت الضائع" للروائي الفرنسي مارسيل بروست/ Marcel Proust، الذي اعتبر من الكّتاب المهمين في القرن العشرين، التي " ولدّت تعبيراً عن حالة فرار من واقع مأزوم، ولم تصبح حركة للتجديد في الشعر والرسم والنحت والقصة إلا عرضاً".
وكتب في "بيروت المساء" الكاتب "حسن الأمين" الذي كان استاذاً في "كلية الملكة عالية" آنذاك، على أن نازك وبلند كانا متقدمين: لكني (تعرفت في هذه الأثناء على الشاعر بلند الحيدري، الذي ينظم في نفس الطريقة ونفس الأسلوب،.. فقرأ لي شيئاً من شعره الجديد، ثم أصدر ديوانه "خفقة الطين"، فكان فتحاً في هذا الشعر. وكان أول ديوان لشاعر عربي يصدر بهذا الإسلوب).
ما حدث في الفن آنذاك انعكس على الشعر والأدب أيضاً، فكان هنالك مجموعتان، مجموعة تؤمن بالحرية الفكرية الفردية، كانوا يلتقون في المقاهي واشتهرت مقهى (واق واق) في الأعظمية في لقاءات أولئك الشعراء وكانوا متأثرين بالبودليررية والوجودية، أما في الصيف فيلتقون في (الجراديغ) على شواطئ جزر صغيرة تظهر بانحسار ماء نهر دجلة في الصيف. وكان الجدل والنقاش يستقطب تلك اللقاءت وكانوا يؤمنون بالعبثية بمفهومها الإيجابي، كردود فعل وثورة على الجمود وتقاليد المجتمع البالية.
في عام 1953 التقى بدلال المفتي، وتزوجا في نفس العام، وهي فنانة كانت تدّرس الفن في ثانوية الأعظمية، وسكنا في مشتمل في شارع طة، بجانب دار كامل الجادرجي، فكنتُ كثيراً ما أشاهد دلال مع طفلها "عمر" عندما أذهب إلى كلية الآداب إذ كنت ما أزال تلميذة آنذاك في فرع اللغة الإنكليزية، التي كان من بين أساتذتها جبرا إبراهيم جبرا ودزمند ستيوارت اللذان كانا من أصدقاء بلند، بل ترجم ديزمند ستيواترت بعض قصائده إلى اللغة الإنكليزية.
وبعد ثورة الرابع عشر من تموز، أصبح بلند من أبرز الأعضاء النشيطين في إتحاد الأدباء، استمر في عطائه حتى اعتقاله في الانقلاب الذي حدث عام 1963، والذي اطاح بعبد الكريم قاسم رئيس الوزراء آنذاك، حيث اخذ الحرس القومي يجوبون شوارع العاصمة يفتشون عمن يسمونهم "بأعداء الشعب"، واعتبر بلند احدهم، فالقي القبض على شريحة واسعة من مثقفي البلد اليساريين والشيوعيين. كان إنقلاباً دموياً، واطلقت يد "الحرس القومي" لملاحقة المواطنين وإلقاء القبض على من يشاؤن، وأصبحت ممارسة الخوف سائدة في تصفية حسابات سابقة. كان بلند في عداد القائمة المعدة اسماؤها للإعدام، وسجن في زنزانة صغيرة، حيث قضى أربعة أشهر في المعتقل، عانى خلالها أنواعاً من التعذيب، وبعدها ترك بغداد المدينة التي أحبها وعشقها في عام1963، وكتب كتاباً عن التجربة القاسية التي مرّ بها بعنوان: "جئتم مع الفجر". وعلمته الحياة في السجن، ألا يخاف الموت فيقول عن ذلك، (لا تضحكي/ لا تبكي يا أماه/ فأمس قرب دارنا/ عرفت أن الموت لا يخيف كالحياة).
سافر إلى بيروت، المدينة التي احتضنته بمفكريها وكتابها وفنانيها. وقد كتب عدد من القصائد بها، وخصها بديوان بعنوان "إلى بيروت مع تحياتي" في عام 1989. ادرك في بيروت ان يكون ديمقراطياً. (ولكل منا أن يجد نفسه في الباب التي يريد عبورها.. المسلم مسلم، والمسيحي مسيحي.. في بيروت أدركت أهمية أن أكون ديمقراطياً وأن أفهم الآخر)، لكنه ظل يحن إلى مدينته المفضلة بغداد.
(ها انا درب يتمرغ في عتمته/بحثاً عن زمن كان/ عن وطن كنا فيه/عن وطن أعمى كالتيه/أتمنى لو أدفن فيه).
كان معاصراً لثلاثة من كبار الشعراء بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وكان يقول عن عام 1926، العام الذي ولد به، بعام العباقرة، ويعيد ذلك على رفعة الجادرجي، الذي ولد أيضاً في نفس العام، من ان عام 1926 عام العباقرة..
قال عنه بدر شاكر السياب: "يقف بلند الحيدري في طليعة الشعراء العراقيين الذين جددوا الشعر العراقي". أما عبد الوهاب البياتي فقال عنه 1952 "بلند شاعر مبدع في اساليبه الجديدة التي حققها وفي طريقته التي لا يقف معه فيها الا شعراء قلائل من العراق". وكتب عنه الشاعر نزار قباني: " بلند الحيدري لن يتكرر، لأن الملائكة لا يتكررون".
يقال عنه انه لم ينل حقه لسببين: اقامته في المنفى والثاني لم يمتلئ بالذات الشاعرة ولم ينافس ولم يتقصد تبيان حقه ودوره مع الحضور القوي لقصيدته واشعاره. ويذكر بلند عن ديوانه "خفقة الطين": إنه "هو اول ديوان يصدر في العراق ويحمل توجهات جديدة، ولكن ليست غريبة عن العالم العربي"، إذ كان عليه تأثير من شعراء آخرين، مثل عمر ابو ريشة والياس ابو شبكة و محمود حسن اسماعيل، الذين اثروا في تجربته الأولى. لكن شعره يمثل الخيبة الذي يكتنف العصر الحديث.
كنا نلتقي دائماً عندما نسافر إلى بيروت، لكن توطدت العلاقة بيننا عندما انتقل بلند وعائلته إلى لندن، وكنا نلتقي على العشاء أحياناً، كما كنا نلتقي بمناسبة عيد ميلاده في 29/9/ 1926، وعيد ميلاد رفعة في 6/12/1926 اللذين كانا في نفس العام.
جاء الصيف لينبئنا بوفاته، كانت مفاجئة لجميع أصدقائه. فقد كان بلند يعاني من مشاكل في القلب، و يحتاج إلى عملية منذ أكثر من عامين، ولكنه كان يخاف من إجراء تلك العملية. كان بعض الأصدقاء يتندرون معه أحياناً عندما يشكو من قلبه، قائلين له: (عيني شبي قلبك)؟ فترتفع الضحكات لتصبح قهقهات! وكنا داعين بعض الناس في اليوم الذي توفي به بلند، فألغينا العشاء بسبب وفاته.
وأقيم له بتلك المناسبة حفل تأبيني أشرفت عليه سلوى الجراح، وقيّم بذلك الحفل أهميتة كشاعر وإنسان، وشارك به كل من رفعة الجادرجي وفاروق رضاعة ومحمد بحر العلوم، وبشرى برتو.
وقد طُلب من رفعة تصميم قبره، وقد صممه من قطعة من الرخام الأسود، تتصف بالبساطة والأناقة. دفن في "مقبرة هاي كيت/ High gate Cemetery" في عام 1996، وهذه المقبرة من المقابر المشهورة في لندن، حيث دفن فيها عدد من المشهورين في عالم الأدب والشعر والفلسفة والعلم، منهم الفيلسوف كارل ماركس وزوجته والشاعر الإنكليزي جورج أليت/ George Eliot، والعالم مايكل فراداي/ Michael Faraday وغيرهم.
جميع التعليقات 1
عدي باش
إستذكار راقِِ و لمسة وفاء لأحد أعمدة الحركة الثقافية العراقية و العربية الشاعر الرائد بلند الحيدري