اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > عبد الرحمن طهمازي والتدوير ما بعد الربيعي في مطولة (الفصل الخامس)

عبد الرحمن طهمازي والتدوير ما بعد الربيعي في مطولة (الفصل الخامس)

نشر في: 9 مارس, 2024: 11:02 م

د. نادية هناوي

قصيدة النثر نظام هندسي ومنهج فكري لجنس شعري مقنن، وإن كان غير محدد، وهو قديم وليس حديثا، وإنساني عام وليس مخصوصا بجغرافية أوروبية.

وما انتساب قصيدة النثر إلى عالم الشعر سوى انتساب عالم الشعر إليها كمبدأ مضاعف من مبادئ النظام الأجناسي فيها، بوحدة عضوية ذات شروط تحديثية تعكس ممكنات قالب قصيدة النثر، وبها تتأكد حقيقة تنسيقها الجمالي العابر على القصة القصيرة جدا والخاطرة والومضة فضلا عن عبوره على أجناسية قصيدتي العمود والتفعيلة.

إن القيمة الجوهرية لقصيدة النثر تتأتى من كونها أنسب الأجناس الشعرية لمن عُرف باهتمامه بالفلسفة، شاعرا يسوح في ملكوت الأفكار، متحررا من قوانين الواقع ومغامرا في سبر آفاق الكون، باحثا عن سماء صافية أزلية. وببلوغها تكون ثورته الفكرية قد تحققت، ونضاله من أجل التجديد والحرية قد أثمر.

وكلما كان الشعر جنونا توطدت نظاميته، وكلما كان الفكر متغلغلا في القصيدة، كانت شاعريتها أقوى أثرا وأوسع مدى في العثور على المجهول ومعرفة الحقيقة. وهو ما نجده متمثلا في مطولة الشاعر عبد الرحمن طهمازي المعنونة(الفصل الخامس). ولقد عُرف عن طهمازي خلال العقدين المنصرمين مواظبته على كتابة المطولات، وعادة ما تتجاوز سطور الواحدة منها المائة والمائتين وأكثر، كقصيدة(المعزوفة) وقصيدة (تمرين على اليقين) وقصيدة (الهروب مع المصير). وعكس طهمازي في هذه المطولات وعيا عاليا هو خلاصة تجربته مع الشعر والنقد التي يربو عمرها على أكثر من ستة عقود.

وتتألف قصيدة (الفصل الخامس) من مائتين وسبعة وثلاثين سطرا، وفيها تُفكر الذات في العالم من خلال الشعر فتجد أن الشعر هو العالم. ومن هنا أهدى الشاعر هذه المطولة إلى مفكر عراقي معاصر أحب الشعر وكان أحد نقاده الأدبيين هو "هادي العلوي".

وتفتتح المطولة بمشهد بانورامي فيه نجد الأسطورة جنبا إلى جنب الواقع، وقد صنعا يوتوبيا غابرة، وعنها يبحث الشاعر مستعرضا تاريخا من الأساطير والوقائع معا، مفكرا في الرسالة/ الكلمة التي ينبغي أن يقع عليها، مخاطبا شاهدا يعيش يومه في قيلولة وكان ذات يوم مغامرا يجوب الآفاق ولا يهدأ له بال وهو يبحث عن حرية مفقودة أو بالأحرى مستلبة، مفكرا في أمسه ويومه اللذين يراهما بوضوح، أما غده فيراه غامضا.

ولأن الحياة دورة، فيها يختلط الزمان بالمكان والواقع بالخيال، يحتاج الشاعر إلى التدوير أسلوبا شعريا به يتمكن من سبر ملابسات هذا الاختلاط اولا، مواصلا التفكير فيه آخرا، فتتواتر من ثم سطور القصيدة منسابة بلا توقف. أما محصلة توظيف التدوير فمتحققة على مستويين: الأول، موضوعي، وفيه تغدو المطولة الشعرية متدفقة الأفكار، محتشدة الدلالات، مشحونة بالمشاعر، غائرة في كنه الوجود زمانا ومكانا، مبتدئة من أول جرم ارتكبه الإنسان وما تلا هذا الجرم من جرائم انتهت بالعبودية التي كبلت الإنسان ومنعته من ممارسة حقه في الحرية. والمستوى الثاني فني، فيه تغدو المطولة الشعرية عبارة عن قصيدة ذات وحدة واحدة لا تقبل أي اجتزاء لأي مقطع منها، نظرا لصلته العضوية بما يقتطع منها. ومن ثم يتوجب على القارئ أن يتحلى بروح ملحمية وهو يقرأ المطولة بنفس واحد وباستعداد لا يخلو من تحد، بل إن التحدي هو في مغامرة اختبار القدرة الذاتية على انجاز هذا النوع من القراءة الشعرية التي فيها تجتمع مراحل القراءة الثلاث: الاطلاع الأولي/ البحث الاستكشافي/ السعي التأويلي، فتغدو المطولة أقرب إلى الملحمة منها إلى الدراما. وهذه الميزة ليست خاصة بمطولة(الفصل الخامس) بل هي عامة في مطولات الشاعر عبد الرحمن طهمازي كلها. وتكاد تكون هذه الميزة أكثر الملامح أهمية في شعره قاطبة.

وبسبب التدوير السطري والتواتر السردي غدت لوحات المطولة مترابطة ترابطا يصعب معه اقتطاعها، تمثيلا على ما يضخه الشاعر من إرهاصات فكرية ذات جرعات فلسفية تتفاوت في قوة احتدامها، فأحيانا تبدو الفكرة أفقية معتدلة، وأحيانا أخرى تبدو عميقة وشاقولية، متعالية بتراندستالية ظاهراتية تذكرنا بأشعار ريلكه وهولدرلن. فنلمس فيها المتناهي واللامتناهي داخل علاقات متشابكة وبفضاءات لا يمكن الجمع بين عناصرها وأطرافها المتضادة كأن يطاوع القوي الضعيف أو يثق الأمين بالخائن أو تقف البراءة داعمة الخباثة أو تصاحب الذاكرة النسيان أو يصادق اللص الشرطي.

والمحصلة أن الأفكار تختلط في البال فلا تعود رؤية الحياة ممكنة، فهي مثل مسرح ترك فيه الممثل دوره والجمهور غادره وقد عرف أن بغيته موجودة في الأسواق. والحتمية التي إليها يصل الشاعر هي أن التفكير في الواقع غير مجد، لأن الواقع نفسه غير صالح لأي تفكير. فيتحسر ويطلق آهات التوجع، متفجعا على حال لا يخطر على بال. اما المستقبل فعقيم وعاجز، سانح وبارح، غامض وفاشل.

وتتنوع الأصوات الشعرية ما بين التكلم والخطاب والغياب وتنتهي القصيدة مثلما ابتدأت بالحنين إلى يوتوبيا زمن ضائع وإلى ظل كان ذات يوم نعيما وملاذا، لكنه اليوم رحل إلى غير رجعة. وليس هذا الظل سوى (هادي العلوي) الذي بغيابه اندثر الفكر واحتضر المنطق وأجهضت النهضة وغاب التنوير، وتحول الربيع إلى آخر مجدب بلا حياة.

وفجأة يتعالى صوت الأنا ناشدا للحياة مجددا بروح ما بعد ربيعية، تنفض عنه القنوط والانتكاس فيحلم بغد فيه تعود بابل بكليتها: برجها وغزالتها وأسطورتها، وهنا يكون الفصل اليوتوبي الجديد ما بعد الربيعي، هو (الفصل الخامس) من فصول الطبيعة الذي لا مكان له على أرض الواقع، إنما مكانه أرض واعدة في الخيال أو في ما يتصوره فكر حالم بزمان يتخلص فيه الإنسان من ربقة الفصول الأربعة ووقائع أهوال دورانها السرمدي. ليحل محلها هذا الفصل ما بعد الربيعي الذي هو نعيم مقيم فيه يستعيد الشاعر يوتوبيا ضائعة، ويحصد ثمرة بحثه الدؤوب عن الحقيقة ظافرا بالاثنين معا الشعر والفكر.

وإذا كان أسلوب التدوير هو الملمح الأبرز في مطولة(الفصل الخامس) فإن تكثيف النزعة السردية تعبيرا وبوحا هو ما منح هذه المطولة تمددا شعريا فتمكنت قصيدة النثر من اكتساح غيرها من الأنواع والأشكال عابرة عليها. وهذه ميزة أخرى تتفرد بها مطولات عبد الرحمن طهمازي أعني أن عبورها يكون ناجزا بقالب قصيدة النثر مباشرة. وكلما استطال السطر الشعري بدت الغلبة لقصيدة النثر، والسبب قالبها الذي يسمح بالتمدد والتواتر بلا هوادة.

وإذا كانت اللاهوادة تتضح على المستوى الشكلي، فإنها تبدو على المستوى الفكري في التحير في كنه الموت والتضاد في تفسيره وانشغالات أخرى تحسب دلاليا كمتضادات فتترى مستمرة، ومعها تتعقد الأفكار ويغدو الطابع السردي واضحا مع المداومة على استعمال أسلوب التدوير، فيتمدد السطر الشعري أكثر فأكثر إلى درجة أننا إذا ما وصلنا بين سطور القصيدة فستتكون لدينا سردية ملحمية بخاطر شعري واحد ومتواتر لا ينقطع. وبهذا كله تَصهَر قصيدة النثر القصة القصيرة جدا وقصيدة التفعيلة ومن ثم تعبر عليهما.

ونجتزئ من مطولة الفصل الخامس – مع أنها لا تقبل الاجتزاء- هذا المقطع لندلل على وحدتها الموضوعية الناجمة عن تدويرية وحداتها الفنية:

تؤكل الأكتاف والأعناق وإذا أردت تناول الرؤوس

اللاذعة فهاكها في ممثّل يتذكّر كلّ الأدوار باستثناء

دوره فلم يبق له سوى الجلوس على الخشبة غير عارف

ماذا يفعل بلسانه وينظر الى حركات الجمهور الذي

يتحيّن فرصة الفرار إلى الأسواق السخيّة

هنا تتمركز الحروف المحايدة التي تحوم فوق الأسرار

البالية التي تتمطّى وتنكمش حسب القياسات وهناك يتلاقى اللصوص والشرطة

فمن ذا الذي يقوم بأود الآخر و يدٌ تعمل على غسل

اليد الثانية والغافلون يحرسون المسرح ويؤدّون

للمارّة تذاكر البصبصة على كواليس الحقيقة التي تنفض

يدها الخالية ولا بدّ من ذلك حين تسديد الثمن في هذا

الوقت الذي ضاعت فيه المجاذيف وراحت الحروف

تخبط المعاني خبط عشواء فماذا تفعل أيّها القلم

التلقائيّ العطوف وماذا تفعل الذاكرة وهي تجذب

المستقبل بحسرة الى الماضي الذي يواصل الهذيان

والجوع العسير ويستطيع قلب الآثار يوم يستولي

الضحك على المجانين الذين يرسمون الدجاج

على البيوض لتنكشف عن أفراخ مطرّزة وينطلق الصدق الخجول

في الأكاذيب العذراء بلا مكاييل ويذوق الجميع حسنات

العاقبة على سطح يطفح بالكيل وليس له ملمس

إلاّ بعد انطفاء الأمل غير المأسوف عليه برأي الزمان

الذي سار خلال الطرق التي خَبَره

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram