سهيل سامي نادربقدر ما تشكل ثلاث أو أربع لوحات من أعمال ضياء الخزاعي محور جذب لانطباعاتنا، فإنها تلقي على بقية الأعمال صورتها الدلالية، ان تعبيريتها العنيفة، الأوروبية الطابع، تتصدر أعماله الأخرى التي تختلف في روحيتها البنائية مع ان جميعها تمارس لعبة الإخفاء، فهي تنمو باتجاهات عدة في اللحظة التي يبدو فيها الفنان أنه أراد ان يرسم شكلاً فاكتفى بملمح صغير منه او شطبه أو غيم عليه: الحركة، التلميحات، الشطب، التفكيك، التعارضات، والأشكال اللاهية اللا مستقرة.
ان الفنان "يمحو جزءاً مما كان عليه ان يرسمه" هذا ما كتبه الناقد فاروق يوسف.تدفعنا هذه الأعمال الى مثل هذا الانطباع الفاتن-انطباع هو من القوة والإيحاء، بحيث ينسينا دلالته- فحدود وصفه ذاك يعبر عن كفايته، مع ان هذا الوصف ينطلق من ظواهر حدسية وأحاسيس مكظومة لمتلقين يمارسون القناعة، لكن من الواضح ان الرسم هو ما يظهر في اللوحة بكفايته وخلوص حجته، سواء عارض الرسام أشكاله ونياته، ام لا.. سواء محاها أو أبقى على أجزاء منها، ان هذه الحقيقة لا تنفي انطباعاتنا بقدر ما تقودنا الى تأمل جديد.. تأمل نأمل ان يتفحص دلالاتها ومستوى ظهورها وأين ضمن التركيبة الفنية.فالمحو الذي يظهر كأسلوب يعين مناطق جذب لتشابك أشكال نصف مخمنة، وبإمكاننا اعتبارها مناطق تحويل للعلاقات الشكلية –تخويل من التحديد الى الإبهام، من التطابق والمحاكاة الى التمويه والتلميح والاختزال.إذا ما دققنا في أعمال الفنان جيداً فلن نجد (المحو) وحده، بل هناك أيضاً تفكيك الشكل واختزاله أيضاً، فما يغلق من مكان يفتح من مكان آخر، وما يفكك ويترك تلميحاً فلوجود قيم تعبيرية أخرى تتجاذبه، ان نمطين من الأساليب أنتجا عملين مختلفين من الناحية البنائية.. وإذا كانت كلمة (أسلوب) غامضة فأني أود تعريفها بأنها تنظيم المادة الشكلية وليست عنصراً مضمراً نستشعر وجوده حدسياً، وضمن هذا التعريف أرى ان هناك نمطاً ثالثاً من الأسلوب لدى الفنان، وجميع هذه الأساليب الثلاثة لا تشترك معاً الا بالأوصاف التالية:1- الاختزال وانعدام المحاكاة- وهذان الوصفان يمكن الاستدلال عليهما بسهولة.2- الأشكال الدالة التي تنتقل من نمط الى آخر والتي تغير علاقتها تبعاً لأوصاف هذا النمط او ذاك، مع انها تقوم بوظيفة الربط الدلالي بينها.ويلاحظ ان الناحية البنائية التعبيرية هي التي تفرض هيمنتها وهو مؤشر على ان الفنان يكتشف حلوله فنياً.لنقدم الآن وصفاً لهذه الأنماط الثلاثة التي سأعطيها تسميات تعبر عن مبادئ عامة يمكن تبريرها من تلازماتها الأسلوبية والوظيفية.1- النمط الذهني: تعبيرية تعتمد على خطوط، حركات لونية عنيفة وضربات ولطخات فرشاة سريعة ذات قيم تعارضية تفيد معنى الحركة واللا تنظيم و(محو) أي شكل واضح يمكن له ان يولد هذا التركيب لا يشغل فضاء اللوحة كلها، تاركاً هنا وهناك فجوات بيضاً من دون معالجة بالصيغة الذي قد يشدها كخلفية، وبينما تحفزنا المعالجة بسبب جرأتها وغموضها نفاجأ بشكل تخطيطي عام لدراجة هوائية او جزء منها في أعلى اللوحة.في هذا النمط تنفتح حركات مهمة على شكل معروف بما يثير فينا حركة دلالية: مغلق (غامض، ممحو) مفتوح (واضح ، ظاهر).2- النمط النفسي: تطفو على سطوح شفافة مشغولة باللون، كتل محددة متناظرة ومساحات لونية إيقاعية ذات اتجاهات معلومة: أسفل- أعلى.. يمين- يسار، وتظهر بوضوح داخل هذه الكتل وخارجها، موتيفات صغيرة، بعضها اعتباطي والكثير على شكل دائري يعيد معنى الحركة، وهناك موتيفات تصدر بوضوح عجلة الدراجة.3- النمط العاطفي: تنفتح اللوحة في فضاء لوني عاطفي وبسيط تتحرك فيه إيماءات وعلامات مفككة وخطوط وحزوز لاهية، وهي تنتقل ما بين سذاجة بليغة تتمثل إيماءات يمكن تخمينها وسذاجة ريفية تتمثل بالألوان الحارة والأشكال المتماثلة، وهنا أيضاً تظهر أشكال دائرية: العجلة على الدراجة بالتحديد او أجزاء منها ولا تخلو من تناظر.نكتشف هنا بين هذه الأنماط الثلاثة وجود حركة لعلامة تظهر في صورتها شبه الايقونية في النمط الأول (الدراجة الهوائية) وصورتها المجازية الكنائية في النمط الثاني والثالث (العجلة او أجزاء من الدراجة).والفنان باستخدامه الأول قد أجرى انفتاحاً لولاه لظل العمل أسلوبياً مغلقاً وباستخدامه حالة اشتقاقية مجازية في النمطين الأخيرين فقد واصل الدلالة وأفاد معنى الحركة والتحول، ان النمطين النفسي والعاطفي حالتان موحيتان للإيحاء والترميز، لأنه في البدء يتفتح بوساطة المساحة واللون والشفافية، كما ان تناظرية الكتل تفتحها إيقاعية الموتيفات التي تفيد معنى الحركة والاتجاه.والآن هل من (دلالة) لدراجة ضياء الخزاعي؟ من المؤكد أنه لا يمكن استخراج دلالة علامة في فضاء مطلق خارج علاقات العمل الفني، ومن الصعوبة بمكان ان نجد في طفولته ما يشير إليه هذا الشكل أو ذاك من أفكار أو وقائع محددة، لكن هل نخاطر إذا تقدمنا بهذا السؤال.. هل ثمة علاقة ذهنية وتحليلية بين مبدأ الحركة واللا تنظيم والدراجة ودلالة السرعة والتمرجح؟ ولماذا الدراجة؟ ألبساطتها التخطيطية؟ ألخفتها، واللون العاطفي لحركتها وتجوالاتها؟والسؤال النظير الآخر هو: هل يستدل الفنان على طفولته بالدراجة الهوائية؟ ان المرء يستدل على طفولته بشيء من الأشياء يمكن ان نحسبه رمزاً شخصياً، والطفولة مسكونة بالأسرار ليس لطبيعتها فقط، بل لأننا خليناها وراءنا آسفين نازفين، وكلما تقدمنا بالعمر نفاجأ بأثر منها يلج
الفنان ضياء الخزاعي.. تلميحات محتملة
نشر في: 3 سبتمبر, 2010: 05:01 م