رشيد غويلب
تواجه قوى اليسار والتقدم في العالم العديد من التحديات، سواء تلك المرتبطة بالإجابات المطلوبة على الملفات الرئيسة للصراع الاجتماعي – السياسي الدائر في بلدانها اليوم،
او تلك المتعلقة بالمعارك المباشرة مع الخصوم والمنافسين. وفي هذا السياق يمثل الصعود المتواصل لقوى اليمين المتطرف في أوربا، والذي من نتائجه وصول الفاشيين الجدد في ايطاليا، لأول مرة الى دفة السلطة، بعد هزيمة النازية الألمانية والفاشية الإيطالية في أوربا في نهاية الحرب العالمية في أيار 1945، وكذلك تحقيق اليمين المتطرف في المراكز الاوربية فرنسا، المانيا، والسويد وعدد من بلدان أوربا الشرقية، نجاحات انتخابية ومشاركات في الحكومات الوطنية والاقليمية، وكذلك كسر اليمين المحافظ واليمين الليبرالي لجدار تحريم التحالف والتعاون مع الفاشيين الجدد. وتقول التحليلات واستطلاعات الرأي الراهنة ان اليمين المتطرف سيتجاوز الكتل التقليدية اليمين المحافظ وقوى الوسط للأحزاب الديمقراطية الاجتماعية في انتخابات البرلمان الأوربي المقبل في 24 حزيران 2024. وفي انتخابات العاشر من اذار الجاري عاد اليمين لحكم البرتغال، وحقق اليمين المتطرف نجاحا ملموسا.
وفي امريكا اللاتينية، وعلى الرغم من استمرار ما يطلق عليه بالموجة التقدمية الثانية في القارة، الا ان اليمين المتطرف والقوى المحافظة، وبقايا القواعد الاجتماعية للدكتاتوريات العسكرية السابقة تحشد قواها وتريد العودة للسلطة من جديد، وهنا ايضا يشكل الفاشيون الجدد تعبيرها السياسي الابرز، وابرز نجاحين: انتخاب الفاشي بولسيناريو رئيسا للبرازيل، وعلى الرغم من خسارته الانتخابات الرئاسية الاخيرة لصالح الزعيم اليساري "لولا"، الا ان ظاهرته ما تزال تشكل خطرا جديا على مستقبل البلد الاكبر في امريكا اللاتينية. وفي الارجنتين استطاع الفاشي الجديد ميلي الوصول الى السلطة اخيرا. ويمكن ان تمثل عودة ترامب الى السلطة في البيت الابيض دافع جديد لهذه القوى لاستمرار مسلسل صعودها.
ولهذا فان اوساطا واسعة من جمهور قوى اليسار تعاني احباطا، ويدور نقاش محتدم بشأن سبل وامكانيات تغيير المسار العام للصراع لصالح المشاريع البديلة.
وفي هذا السياق تمثل النجاحات القليلة المتحققة في أوربا ومثيلاتها الاكثر تأثير في امريكا اللاتينية ونضالات الحركات الاجتماعية والنقابية في العديد من البلدان، رافعة تفاءل ومنطلق لتحقيق المزيد. ويمكن القول ان التجربة الملموسة لحزب شيوعي كان حتى الامس القريب يوصف بالصغير في النمسا جديرة بالعرض والتمعن والاستفادة من دروسها ليس في الاجابة على امكانية ايقاف صعود اليمين المتطرف في أوربا فقط، بل ان التجربة، كما اعتقد تنطوي على دروس هامة للقوى التي تناضل من اجل تغيير شامل في بلدا مخرب كالعراق. ان ما تفتقده قوى التغيير في بلدنا الرؤية المنهجية والاصرار على خلق التراكم المطلوب، في ظل ظروف موضوعية صعبة، والابتعاد عن الشكلية والتبسيط في تبرير الهزائم والسياسات غير المنتجة طيلة عقدين من الزمن.. فماذا تقول التجربة النمساوية؟
انتخابات ولاية سالزبورغ الاخيرة
في العاشر من اذار الحالي غيرت نتائج الانتخابات المحلية لولاية سالزبورغ المشهد السياسي في عاصمة الولاية بشكل جذري. لقد مني حزب الشعب اليميني المحافظ بهزيمة كارثية. وفاز في الانتخابات الحزب الديمقراطي الاجتماعي بحصوله على 26 في المائة. وكان الحزب الشيوعي النمساوي الفائز الاكبر في الانتخابات، اذ حصل على 23,1 في المائة مقابل 3,7 في المائة في انتخابات 2019. وفي التنافس على منصب عمدة المدينة، حصل مرشح الديمقراطي الاجتماعي على 29,37 في المائة، مقابل 28 في المائة لمرشح الشيوعيين وسيحسم الصراع في جولة ثانية في 24 اذار الحالي.
الدرس الاول لهذه النتائج: سياسات اليسار قادرة على التصدي لصعود اليمين، ليس في أوربا فقط، يل وفي البلدان الاخرى. وان قوى اليسار والتقدم وعموم القوى البديلة قادرة وبالضد مما يشاع في مؤسسات الاعلام السائد، قادرة على تقديم اجابات مقنعة على الازمات المجتمعية.
يعود الفضل في نجاحات الشيوعي النمساوي المتتالية الى سياسته الاجتماعية المستقرة. والى استماع الحزب لصوت الاكثرية وسماع مشاكلهم ومخاوفهم، وبالتالي مساعدتهم على اخذ زمام مبادرة الحل بأنفسهم، سواء كان الامر يتعلق بأزمة السكن، ارتفاع الاسعار، او تراجع مستوى الرعاية في جوانبها المختلفة. وتكتمل الصورة بإعطاء المثل الملموس على التضامن مع المحتاجين والمتضررين، من خلال احتفاظ اعضاء البرلمانات والمجالس البلدية الشيوعيين، بما يعادل راتب عامل ماهر 2300 يورو حاليا، اي قرابة 30 في المائة من رواتبهم، وتخصيص الباقي لصناديق اجتماعية لمساعدة المحتاجين، وبهذا يقترن رفض الانتفاع وتبريره، بإعطاء المثل على فهم المسؤول لواجباته تجاه ناخبيه.
ويعترف حتى نقاد الحزب الشيوعي النمساوي من اوساط اليسار المتشدد، بان الحزب يتبنى سياسة اجتماعية صادقة، ما عاد بإمكان الديمقراطيين الاجتماعيين ممارستها، بسبب توجهاتهم اليمنية، خصوصا عندما يصلون الى السلطة، وان الحزب الشيوعي النمساوي يتبنى قضايا مهمة، لكن هؤلاء النقاد يتهمون الحزب بالابتعاد عن المقولات والشعارات الثورية التقليدية. وهم بذلك يتناسون بفعل جمودهم الفكري ان السياسات التي تلبي حاجات الناس الاساسية تكون بالضرورة ثورية، وان الضامن لثورية الاحزاب والحركات هو تمسكها بمنهج يلبي المصالح الاجتماعية للأكثرية،، دون ان(تحذف) التماهي او الاندماج بالنظام السياسي السائد، أو تلميع صورة الرموز التي تتصدره. بمعنى آخر، انه بين الانغلاق والتطرف من جهة، والذوبان في اوهام ليبرالية مساحة شاسعة بإمكان القوى البديلة التحرك فيها.
اسباب النجاح
تعود جذور التجربة الناجحة للشيوعي النمساوي الى نهاية التسعينيات، يوم حصل الحزب على مقعد واحد في بلدية غراتس، ثاني اكبر مدن النمسا، والتي يقود الشيوعيون اليوم حكومتها المحلية. وبالتأكيد فان لهذا النجاح اسبابه، ولعل اهمها.
لقد ادت عملية التجديد التي تبناها الحزب الى مراجعة التجربة السابقة، دون التخلي عن المنهج الماركسي في التحليل كأساس للممارسة. ونتيجة لذلك ابتعد الحزب عن الجوانب الضارة في التجربة السابقة مثل سيادة البيروقراطية والمركزية الشديدة والعقائدية، وتراكم الإشكاليات واللجوء الى تبرير انعكاساتها. وتحوّل الحزب وفق خطوات مدروسة الى قوة منفتحة وجاذبة للتنوع داخل اليسار، محافظا على موقعه كقوة متميزة على يسار قوى الوسط في المشهد السياسي..
بالإضافة الى الثبات والاستمرار في ممارسة سياسة ملموسة في البلديات مستندة على علاقة مباشرة ووطيدة بالناس، واعتماد اساليب جديدة ومبتكرة وذات مصداقية في الدفاع عن مصالحهم. وهذا النهج كان وراء نجاح احزاب اليسار في بلجيكا وايرلندا أيضا.
ونجح الحزب ايضا في العمل مع المجاميع النسوية الناشطة، العاملين في مجال الثقافة، ممثلي مناهضة الفاشية، جماعات الدفاع عن البيئية، منظمات المهاجرين، وشبيبة الخضر والديمقراطيين الاجتماعيين، بالإضافة إلى المجموعات والشخصيات الماركسية على تنوعها
وكذلك التطور الحاصل في موقف الحزب من الشبيبة الباحثة عن البدائل السياسية، اذ احتضن الحزب شبيبة حزب الخضر اليسارية الذين غادروا حزبهم؛ واختارهم للمواقع القيادية فيه.
الى جانب السياسات والتوجهات العامة، كان هناك عمل شاق وبثبات، في مواقع السكن والعمل، لفترة طويلة، تم الاستماع خلالها للشارع، بواسطة الاستشارات الاجتماعية، ومجاميع عمل تناولت مواضيع الساعة، والعمل على أساس النتائج والخلاصات التي تم التوصل اليها. لقد جرى تطوير العديد من الموضوعات والمقترحات والحلول مباشرة على أساس المناقشات مع الناس المعنيين بالمشاكل قيد النقاش. وبالتالي تم بناء ثقة، وكان واضحا ان نشطاء الحملات يستمعون للذين لا يجدون من يسمع همومهم. ولم يجر الادعاء بحل المشاكل، بمجرد التصويت لصالح الشيوعيين. وأن المشكلة هي ليست غياب الحلول، بل ان الأحزاب الأخرى، وعلى الرغم من تناول القضية في الحملة الانتخابية، ستبذل قصارى جهدها لدفن الحلول الممكنة في أدراج المكاتب بعد نهاية التصويت مباشرة..
وفق هذه الرؤية، تمكن الحزب وحلفاؤه من تطوير الاستراتيجية المزدوجة الناجحة والتي يمكن وصفها بـ "ساعده وتحدث". بعبارة أخرى، تقديم المشورة والمساعدة الملموسة جنبا إلى جنب مع دعم تنظيم المتضررين للنضال من أجل مصالحهم. والالتزام بوعد طرح كل ما تم تعلمه في المشاورات والأنشطة المشتركة عن مصالح الناس داخل البرلمان. وممارسة وظيفة رقابية مزعجة للحاكمين، بحيث يتم الوفاء بالوعود وتؤخذ مصالح الناس في بنظر الاعتبار. حتى يعرف الناس ما يجري داخل البرلمان، ويسمع العاملون داخل البرلمان هموم الناس واهتمامهم.
الخلاصة
عراقيا يمكن لنجاحات الآخرين في النمسا وغيرها من البلدان ان تعلمنا مسائل بدونها يبقى الحديث عن التغيير الشامل حبرا على ورق، اولها ان يكون لقوى التغيير ادواتها الفاعلة، فلا يمكن للأفكار والبرامج ان تتحول الى واقع ملموس دون جيش من الناشطين قادر على التحرك بين الناس واقناعهم بتحويل الرفض الى ممارسة فعلية.
ولا يمكن الوصول الى هذه الادوات دون توقف ومراجعة وتجديد حقيقي وفق رؤية نقدية للتخلص من ما هو ضار في التجارب السابقة مثل البيروقراطية والمركزية الشديدة والعقائدية، والتبرير الشكلي، والادعاء مسبقا بمعرفة الواقع.
وقبل هذا وذاك هناك ضرورة لاعتماد الاكثرية المتضررة اداة وحليفا ثابتا لصنع التغيير، وعلى طريق البحث عن اشكال منتجة للتحالفات، ينتظر قوى التغيير عمل صعب وشاق في بلورة رؤية تبتعد عن التحالفات الشكلية مع اصحاب المشاريع الفردية والمنتفعين وكذلك الذين تحوم حولهم شبهات فساد قوية.
وعلى صعيد المفاهيم والرؤية النظرية هناك حاجة لمراجعة الكثير من المفاهيم والتسميات التي نحتت لأسباب تكتيكية، ولكنها تحولت الى فضاء يسبح فيه خصوم التغيير، وفي المقدمة منها "مدنيون" و"دولة مدنية". وليكن هم الحالمين بغد افضل العمل مع الناس ومن اجلهم.
جميع التعليقات 1
kadhim mostafac
في العراق لا ينفع ماتم تداوله في بعض الدول الاوربيه اليساريه وتقديم الخدمات فلا زال المواطن العراقي يلتحف بعشيرته وطائفته ولا ينظر يمينا او يسارا الا بما يامر به شيخ العشيره او ملا طائفته