TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > أخلاقية الإعلان ومدى مشروعيتها

أخلاقية الإعلان ومدى مشروعيتها

نشر في: 16 مارس, 2024: 10:46 م

ياسين طه حافظ

اول مرة انتبهت الى الوجه الاخر للاعلان، كنت طالب ثانوية. كان ذلك وانا اقرأ مقالاً للمرحوم الشيخ مصطفى صادق الرافعي في كتابه " وحي القلم". فاجأني منه قوله: ان الاعلان الكاذب يوجب منعاً وعقاباً. فانت به تقول للناس: هذه سلعة جيدة وهي رديئة، هذا كذب وهذا غش. وتقول هذه نافعة وهي غير نافعة بل ربما ضارة. وانت بالاعلان الكاذب تغري الناس بما يجب الابتعاد عنه، فضلاً عن انك تسرق نقودهم وتورطهم بما هو غير جيد او بما هو غير حقيقي.

كان ذلك مجمل وفحوى رأي شيخنا الرافعي رحمه الله فقد علمنا بلاغة لم يعلمناها غيره. اليوم وبعد عقود تذكرت قوله وبدا لي مفاجئاً ومقبولاً.

يقودني الحديث اليوم للكلام عن اخلاقية الاعلان او ما يؤسس له اليوم من افكار. ومدى مشروعيته، ثم- لقد توسعت الرؤية، اذ توسع المشهد فما عاد الاعلان سلعياً حسب، بل صاروسيلة كسب في النشاطات الاجتماعية وفي اختيار الشخصيات السياسية والقيادات الاجتماعية من المنظمة الى رئاسة البرلمان وفي الانتخابات البرلمانية نرى اعلانات و "صور" المرشحين على الجدران والحافلات وفي الساحات وعلى السطوح والجسور.

ولم يعد الاعلان كتابة، صار صوراً وافلاماً وبرامج فضائيات. وصارت له مؤسسات متخصصة بصناعته ونشره او توزيعه. اكثر من هذا صار له فن يخدمه ومخرجون يخرجونه فهو عمل فني فيه المصور والكاتب والممثل والمخرج. اذاً هو اليوم حيوية اجتماعية لا يستغنى عنها. فماذا نقول عنه اذا ما قدم فحوى زائفة او خادعة او ضارة؟

وحين تنشر الاعلان صحيفة رسمية او فضائية يكتسب تأكيداً رسمياً يدعو الناس للوثوق بسلامته وصدقه.

لم تعد المسألة بسيطة هينة. كبرت، تطورت واتسعت وزاد كثيراً عدد المسهمين بها وزاد واتسع حضورها، وهي بعض من حياتنا! جانب آخر، جانب تربوي، عرض اعلان قد يقدم لنا انموذجاً للسلوك، قد يتحكم بالذوق والقيافة واللياقات وقد يسهم في تأكيد على بعض مواد التغذية والطبخ فهو ضمن المدى المدني والصحي. ايضاً لتأكيد المعتقدات المرغوب بها ولهذه دور في توجه ثقافة البلد وسياسته.

قد تبدو هناك جوانب ايجابية صرفاً، لكن آثارها ليست سليمة كلّيةً كأن يكون مضمون الاعلان الفكري متخلفاً او لا انسانياً ويهبط بالمشاهد بدلاً من ان يسمو به. فهو هنا يؤسس لضرر اجتماعي او يمهد لما هو مريب. ونحن لا نستطيع ان نحدد فضاءات وجود الاعلان واين يمكن ان نراه. هو اليوم في كل مكان، لافتات وملصقات، ومشاهد تمثيلية في الفضائيات وحتى في الاغاني والروايات وعلى اغلفة المجلات، بل وعلى اغلفة بعض الكتب والصفحات الاخيرة من بعضها..

يواجهنا اشكال قانوني آخر. فبعد تطور الاعلان المرئي على الشاشة صار الاهتمام بالجماليات واسهمت الفنون كلها تقريباً، تصاعدت قدرات التصوير و"تأليف" مادته الاعلانية واخراجها، صرنا نواجه لقطات يزاح فيها منتج غذائي او صحي باستياء من كراهته، ولتزكية وتقديم البديل! لاشك ان ازاحة الانواع الاخرى توحي بهذه الماركة او تلك، بأسم وصورة هذا او ذاك. وهي إساءة وإن اغفلت الاسم وتمام صورة المنتج المزاح، واضحة، وحال التجاوز على والاعتداء عليه واردة. مع كل هذه المآخذ صارت لنا في الاعلانات وسائل امتاع وبعض من المشاهدين في بلدان معوزة، وقد كنا كذلك، يجدون مسرات في نماذج الجمال النسوي والازياء والاطعمة و"اللقطات" المختارة بعناية لاثارة الاعجاب بها ومنها الى السلعة المعلن عنها، سيارة او صالة فندق فخم او حلي او زجاجات نبيذ... مشاهدون في البلدان الفقيرة يجدون فضائيات الاعلان هي المفضلة فهي تذكّرهم بوجود عالم ارقى هم دونه واغنى وهم بعيدون عنه وفي بؤس. هذا لايخلو من متعة ولكنه لا يخلو من ايذاء نفسي او تكون له نتائج سلوكية لا نريد توافرها.

لابد من اسس فكريه يقوم عليها الاعلان لنتمكن من ادارته والسيطرة عليه وتوجيهه، لا ردعاً عن الاساءة حسب ولكن لتطويره وإغنائه بما هو اكثر نفعاً. ظاهرة بهذا الاتساع والحيوية والتنوع في الوسائل والفنون و "المواهب"، تستوجب تفهماً وتنظيراً فكرياً ولا تبقى ظاهرة طائشة...

نحتاج الان الى وقفة امام ما تشهده من شراء الثقافات او شراء الفن او شراء المثقفين والاطباء والفنانين- مصورين وممثلين ومخرجين، فنانين و اصحاب مهارات ليشيروا او ليخلقوا جواً حوارياً او خطاباً او تمثيلاً، لابراز قيمة واهمية او افضلية المروَّج له. وهذه مثلما هي مسألة اخلاقية، هي مسألة حَرْف القيم الثقافية والحضارية عن مسارها ودورها الاساس.

ويزداد الاعتراض اذا كان هذا الاعلان عما هو سيء او غير صحيح او ضار... اما القول بان الانسان دائماً بحاجة الى عون او نصح، فهو كلام سليم، لكنه اخلاقي مثالي يقابله تماماً ان صاحب الانتاج او المُعلِن يحتاج الى من لا يملك الخيار لكي ببيعه بضاعته السيئة باعتبارها المفضلة والاحسن. مثلما القوانين تحمي من الاعتداء والسرقة والاحتيال، القوانين ايضاً مطلوبة، لحماية الناس مما يخدعهم او يكذب عليهم. وفي حال شائكة مثل هذه، نعود للتأكيد على ضرورة اسس فكرية للظاهرة لتعقِبها قواعد مرعية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: في محبة فيروز

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمود الثامن: ليس حكماً .. بل مسرحية كوميدية

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

العمود الثامن: ليس حكماً .. بل مسرحية كوميدية

 علي حسين قالوا في تسويغ الافراج عن بطل " سرقة القرن " نور زهير ، ان الرجل صحى ضميره وسيعيد الاموال التي سرقها في وضح النهار ، واخبرنا القاضي الذي اصدر قرارا بالافراج...
علي حسين

العراق بانتظار العدوان الإسرائيلي: الدروس والعبر

د. فالح الحمــراني إن قضية أمن البلاد ليست ذات أفق عسكري وحسب، وإنما لها مكون سياسي يقوم على تمتين الوحدة الوطنية والسير بالعملية السياسية على أسس صحيحة،يفتقدها العراق اليوم. وفي هذا السياق يضع تلويح...
د. فالح الحمراني

هل هي شبكات رسمية متشابكة أم منظمات خفية فوق الوطنية؟

محمد علي الحيدري يُشير مفهوم "الدولة العميقة" إلى شبكة من النخب السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، والاستخباراتية التي تعمل خلف الكواليس لتوجيه السياسات العامة وصناعة القرار في الدولة، بغض النظر عن إرادة الحكومة المنتخبة ديمقراطيًا. ويُعتقد...
محمد علي الحيدري

الليبرالية والماركسية: بين الفكر والممارسة السياسية

أحمد حسن الليبرالية والماركسية تمثلان منظومتين فكريتين رئيستين شكلتا معالم الفكر السياسي المعاصر، وتُعدّان من الأيديولوجيات التي لا تقتصر على البعد الفلسفي فحسب، بل تنغمس أيضًا في الواقع السياسي، رغم أن العلاقة بينهما وبين...
أحمد حسن
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram