اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > ما تفعله السخرية

ما تفعله السخرية

نشر في: 16 مارس, 2024: 10:50 م

د. نادية هناوي

مضى على معركة طوفان الأقصى ما يقرب من خمسة أشهر وغزة وما حولها من المخيمات والمدن والقرى الفلسطينية على عهدنا بها صامدة بوجه العدوان الصهيوني بكل ما يمارسه من جرائم وحشية وأفعال إجرامية،

وها هي المؤشرات الميدانية تؤكد أن الغلبة للفلسطينيين وأن قدسهم الشريف عائد إليهم لا محالة. ولقد مالت كفة الصراع العربي الصهيوني لصالح القضية الفلسطينية فما عادت قضية العرب وحدهم فقط، بل هي اليوم قضية العالم الحر أيضا بعد أن انكشف دجل الصهاينة ومزاعم أذنابهم وما اشتغلوا على تمريره وخداع العالم به عقودا طويلة من المخططات والدسائس التي حاولوا إشاعتها بين الناس لكن الشمس لا يحجبها الغربال.

وبات واضحا ميلان الرأي العام لصالح القضية الفلسطينية، ويتمثل بهذا الدعم الشعبي العربي والعالمي الذي يزداد تحشدا يوما بعد يوم لنصرة فلسطين بكل الوسائل والصور وبشكل مستمر لم تنقطع وتيرته على مدى الأشهر الخمسة المنصرمة. وفي ذلك دلالة على وحدة الضمير الانساني النقي على المستويات كافة.

ومن الوسائل التي كانت وما زالت تفعل فعلها في مقاومة الاحتلال الصهيوني وتعرية مخططاته العدوانية، الشعر بكل ضروبه الفصيح والعامي، المحافظ والحداثي وعلى اختلاف أغراضه وأشكاله وأساليبه ومنها السخرية. ولقد اعتاد العربي ومنذ القدم أن تكون السخرية سلاحه حين يواجه التسلط المستكبر المستبد بالتندر والتهكم وما لذلك من وقع بلاغي حارق. ولقد استعملت الصحافة منذ القرن التاسع عشر هذا السلاح بقوة فيعقوب صنوع كان يغير اسم الخديوي توفيق ويسميه (توقيف) وكان يسمي اللورد كرومر(لورد كرنب) أما الشعر فكان أقل توظيفا للسخرية من الصحافة. ولكن ما أن استجدت ظروف سياسية قاهرة في العقد الأخير من القرن العشرين حتى غدت للسخرية فاعلية مقرونة بما موجود على الساحة العربية من طغاة ومتسلطين غاشمين. وليس مثل الشاعر الفلسطيني إحساسا بجبروت من تسلط عليه محتلا غاصبا وكيانا صهيونيا لقيطا. فشاعت القصائد الساخرة بشكل جلي خلال تسعينيات القرن العشرين بعد ظهور دعوات وحملات ومؤتمرات لإبرام معاهدات السلام الشامل وحل الدولتين وخارطة الطريق وهي تبدو في الظاهر جدية ومنطقية لكنها في حقيقتها ليست سوى مماطلات لكسب الوقت وتمييع نضال الشعب الفلسطيني. ومن تلك الدعوات والحملات: مؤتمر مدريد1991 وإعلان اوسلو 1993 واتفاق غزة اريحا 1994 واتفاقية طابا 1995 وبروتكول إعادة الانتشار 1997 ومذكرة واي ريفر 1998 واتفاقية المعابر 2005 وغيرها من المساومات التي تحول دون استعادة أرضنا المغتصبة، وهذا كله بيض فاسد(كركت) عليه دجاجة التآمر"" كامب ديفيد"".

ولقد عبّر الفلسطينيون عن موقفهم الرسمي والشعبي من هذه المحاولات بطريقة ساخرة كما رسم الشعراء في قصائدهم صورا مليئة بالتلميحات الساخرة والهمزات واللمزات المتهكمة لا من الطرف المعادي حسب بل الطرف المهادن والممثل(افتراضا) لاسمهم أيضا.

وإذا كان سميح القاسم رائد الشعر الفلسطيني الساخر فاستعمل التندر والتهكم سلاحا من أسلحة المقاومة، فإن محمود درويش هو خليفة القاسم الذي وظف السخرية بشكل مقذع ولاذع من أجل السخرية مما كان يتواتر في التسعينيات وبعدها من معاهدات وتسويات في الخفاء والعلن. فحفلت قصائده بالسخرية من الحكام والحاكمين وفيها كَشَفَ عن ذكاء وسرعة بديهية في صنع التوريات التي معها تصبح المفارقات حاسمة في توصيل الدلالات بسرعة خاطفة فتؤثر في المجموع تأثيرا مباشرا جامعة الاستهزاء بالغضب والاستخفاف بالسخط والمقاومة بالانتقاد. وليس غريبا على محمود درويش ذلك كله وهو الذي سار على خطى غسان كنفاني فجعل التهكم عماد كتاباته ووسيلة ناجعة من وسائل المقاومة وإلهاب الحماسة الشعبية فتكون الهمم عالية.

ولقد كانت المرحلة التي عاشها غسان كنفاني ما بين النكبة والنكسة نضالية وثورية بيد أن المرحلة التي وظف فيها محمود درويش السخرية كانت سياسية بامتياز. الأمر الذي جعل الهزل أسلوبا مناسبا وحازما في التقريع والتنديد بمهازل الفبركات السياسية التي تُلمع إعلاميا فتُشاع على انها سلام وحلول تسوية ولكنها تسويات مذلة وتآمر تطبيعي.. وهلم جرا.

هذا ما تعكسه قصائد ديوان(خطب الديكتاتور الموزونة) وفيه يضع درويش على لسان الطاغية خطابات يوجهها إلى شعبه المهان والمغلوب وفيها يرمز بتهكم إلى الوضع المزري الذي آل إليه حال العرب وقد تحكم برقابهم طغاة ليس من سبيل لمحاربتهم إلا بالضحك والتندر والاستهزاء.

ولا خلاف في أن للحكام العرب دورا سلبيا في ما وصلت إليه القضية الفلسطينية من طريق مسدود منذ تسعينيات القرن الماضي حتى قيام معركة طوفان الأقصى التي فيها اتضح للعالم حجم التزييف الذي مارسته الصهيونية ومعها الامبريالية العالمية فغطت على حقيقة ما يعانيه الشعب الفلسطيني من ظلم على أيدي الصهاينة وأذنابهم.

ويبدأ محمود درويش ديوانه بخطاب الجلوس مصورا فيه الدكتاتور وقد تربع على الكرسي بمزاج همجي فرسم في مخيلته دستور البلاد:

سأختار شعبا من الأذكياء الودودين الناجحين

سأختاركم وفق دستور قلبي:

فمن كان منكم بلا علة فهو حارس كلبي

ومن كان منكم طبيبا أعينه سائسا لحصاني الجديد

ومن كان منكم أديبا أعينه حاملا للنشيد

وتستمر القصيدة على هذا المنوال من السخرية والتهكم حيث الدكتاتور يخط بيد شكل البرلمان وباليد الأخرى شكل المواطن، طالبا من الشعب أن يشكره لأنه رضي بهم:

فالأمر أمري والعدل عدلي والحق ملك يدي

فسيروا في خدمتي آمنين

آذنتكم أن تخروا على قدمي ساجدين

فطوبى لكم ثم طوبى لنا أجمعين

ويأتي بعد ذلك خطاب الضجر وفيه يدعو الدكتاتور إلى تغيير التقويم السنوي، وكي يتحاشى الضجر، يأمر بحمل العاصمة فوق سيارة جيب ثم يأمر بإلغاء الزراعة ويغلق المسارح والسينما (لا نغم أو وتر وما من خبر) ثم يأمر فيطبع وجهه على القمر وبسبب الضجر يسمح (التلاعب بتاريخ البشر فيوحد المسلمين بسيف قيصر ويرشي ملوك الطوائف ويمحو شرائع سومر) في إشارة رمزية إلى فنتازيا ما يجري على الساحة السياسية العربية من ضحك على الذقون يستدعي بدوره تفكها وضحكا مستمرين.

والمفارقة الصادمة التي تتولد من كم المفارقات السابقة أن الدكتاتور تذكر أنه ضحّى من أجل الشعب فطلب ألا يحسدونه حاكما، لأن صدره مثقل بالأوسمة ويتساءل: أما من فتى غاضب أو من احد يتقاعس عن خدمته أو يبكي أو يجحد أو يشكو أو يكفر؟. وينتهي الخطاب وقد حلف الدكتاتور اليمين انه:

بما لي عليكم وما لي عليكم حلال حلال

كلوا ما اعد لكم من ثمر

سأمنحكم عطلة للنظر

بما يسر الله لي من خطاب الضجر

سلام علي سلام عليكم

سلام على أمة لا تمل الضجر

ولعل أكثر القصائد/ الخطابات حرقة هي التي فيها يستهزئ محمود درويش من عملية السلام التي كانت وقت نظم القصيدة تدور على كل لسان فيتبرم بشدة من الدكتاتور الذي يخاطب شعبه المهان بأن السلام هو الحل. وذريعته أن عدد المدافع أكثر من الجند ولذا:

سأجنح للسلم أن جنحوا للحرب

سأجنح للغرب أن جنحوا للغروب

أيها الشعب آن لنا أن نصحح تاريخنا

وآن لنا أن نلقن أعداءنا السلم درسا وحلا

سنقطع عنهم جميع الذرائع كي لا

يفروا من السلم

سأعطيهم ما يشاؤون منا وما لا يشاؤون كي آخذ السلم

ويستمر التهكم في قصائد(خطاب الأمير وخطاب القبر وخطاب الفكرة وخطاب النساء) وفي جميعها يفبرك الدكتاتور الأمور كي يموه على الشعب الحقيقة فيدعي أن الأرض فكرة وأن الشعب حزب:

فموتوا كما لم يمت أحد قبلكم

ولا تسألوا الحزب: من أجل أية فكرة

أما الشعر فلا يسمح هذا الدكتاتور الغاشم بالاقتراب منه لأنه برأيه يهدم صرح الثوابت ويحيل الوئام إلى صدام..!! ولكن هل يمكن لأمر أن يُظهر الحقيقة كما يظهرها الشعر الساخر خاصة؟!. من هنا كانت سخرية محمود درويش الشعرية حارقة وناقمة كسخرية من سبقوه من شعراء التهكم ومنهم مظفر النواب الذي بقصيدة ساخرة واحدة فعل ما لم تفعله مئات القصائد الجادة وأعني بها قصيدة(القدس عروس عروبتكم).

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram