اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > عِمَارَةٌ مَسْجِدُ أَبِي دَلَفَ : تَمَظْهُرَاتٌ اَلتَّنَاصّ اَلْمِعْمَارِيِّ

عِمَارَةٌ مَسْجِدُ أَبِي دَلَفَ : تَمَظْهُرَاتٌ اَلتَّنَاصّ اَلْمِعْمَارِيِّ

نشر في: 17 مارس, 2024: 09:08 م

د. خالد السلطاني

معمار وأكاديمي

يصدر قريبا كتاب "سامراء العمرانية: قراءة في عمارة الحاضرة العباسية وتخطيطها".

ادناه <مستل> من الفصل السادس من الكتاب يتحدث عن بعض منجزات سامراء العمرانية، بضمنها عمارة "مسجد ابي دلف: (859 – 861م.).

"...مثلت ظاهرة تصميم وتنفيذ مسجد ابي دلف في مدينة المتوكلية بسامراء، ممارسة لافتة في منتج العمارة الاسلامية؛ هي التى اقترن نموذجها التصميمي بكونها جزءاً من نتاج عمارة سامراء الخلاقة، التى اضافت قدرا كبيرا من الابداع الى ذلك المنتج التصميمي. ومن تلك الاضافات التى ارتبطت مع احداث تصميم مسجد ابي دلف، يمكن اعتبار واقعة "تكرار" صيغة تصميمية سابقة ومحددة، التى تبناها معماريو المسجد في اجتراح تصميم مسجدهم المذكور. ومع ان حالة "التكرار التصميمي" امست ممارسة شائعة وحتى تقليدية في منتج العمارة الاسلامية، ولا سيما فيما يتعلق بعمارة المساجد، (كما اشرنا الي ذلك في مكان آخر من هذة الدراسة)، الا ان ما ميّز واقعة "التكرار التصميمي" في مسجد ابي دلف، هو إمعان مصمميه في التعاطي مع صيغة تصميمية انطوت على فرادة تكوينية والجرأة في جعلها مثالاً للتكرار. ونحن نقصد بالطبع حادثة مئذنة / ملوية مسجد سامراء الكبير الفريدة من نوعها في سياق الممارسة التصميمية لعمارة المساجد الجامعة، وتوظيفها في اجتراح شكل مئذنة مسجدهم الجديد في المتوكلية!

ونرى في مقاربة معمار المتوكلية تلك طلائع لوقائع تصميمية، تجعل من صيغ العمل المعماري السابق مثالاً للايحاء والتأمل وموضوعاً للاعادة والتأويل بصيغ واضحة جداً وظاهرة جداً. وهو ما دأب عليه، ايضاً، كثر من المعماريين ذوي ثقافات مختلفة وإثنيات متنوعة في ازمنة متفاوتة، فيما يخص تناولهم، على سبيل المثال، لعمارة مفردة المئذنة <الملوية> في هذا المسجد تحديدا وقبله في مسجد سامراء الكبير. وبهذة الممارسة فانهم يكررون ويتبنون تلك المقاربة التى ارساها، يوماً ما، معمار مسجد المتوكلية في ذهابه الجرئ باتجاه بلاغة تصميمية جديدة اتكأت فيما اتكأت على مفهوم "التناص"، اذا استعرنا مفردة النقد ما بعد الحداثي في تفسير خاصية تلك الممارسة.

وطالما اتينا على كلمة "التناص" في عنوان كلامنا عن عمارة مسجد "ابي دلف" في المتوكلية، فيجدر بنا التوقف قليلا عند هذا المفهوم لجهة اضاءة كاملة لما حدث في فضاء المتوكلية في ذلك الزمن القديم. اذ يعتبر مفهوم <التناص> Intertextuality بمثابة ممارسة ابداعية حددت مناهج النقد الحديث اهميتها ومفاهيمها. وعمارة المسجد بالصيغة التى ابدعها معمارها تغوي بقرائتها قراءة <ما بعد حداثية> لجهة تقصي ما تخفيه تلك العمارة، وما لم تظهره بصورة مباشرة. لكن علينا، ابتداءً، وتوطئة لذلك، ان نتبنى مقترح الفصل الرمزي بين "نص" العمارة كموضوع Object، وما يوحي هذا النص من "تناص، يشير الى علاقة المبنى بالآخر. وهي علاقة جد ممتعة لناحية رصد عملية "التثاقف" Acculturation، وفي ذات الوقت، تعقب الافكار والرؤى الخاصة بالآخر، وتأثيرها على "الموضوع" المنظور. وفي هذا الصدد، ينصحنا "بيتر ايزنمان" P. Eisenman، (معمار مابعد الحداثة المشهور)، ان لا نكون سريعي الثقة بقدرة الحضور على كبت "الاثر" Trace وقمعه (بمعناه التفكيكي)، وانما يتعين ان ندرك الاخير، بكونه حضورا للغياب. وهو امر يجعلنا نتساءل عن مرجعيات معمار مسجد ابي دلف المؤسسة لقرارته التصميمية؟. يحيلنا مثل هذا التساؤل الى الاستعانة باستراتيجيات "التناص" ومقدرتها على تفكيك "النص" المعماري، والتغلغل في اعماقه، ومن ثم اعاده تركيبه، بحثاً عن المفاتيح الاجرائية الخاصة بالتأثر والتأثير، والتفاعل والتضمين والحوار والتعالقات التصميمية التى تتم على المستويين الدلالي والشكلي، التى يوفرها "التثاقف"، كاحد مضامين التناص. وبما ان الاخير يفسر النص بكونه <تشرب او إحالة لنصوص اخرى>، كما تقول "يوليا كريستيفا"، الناقدة الفرنسية، الناحته لمصطلح "التناص"، وهو ايضا، لديها، بكونه < لوحة تتشكل من تركيبة فسيفسائية من الاستشهادات>، فانه في هذه الحالة يعمل وكأنه حاضنة فكرية، يستقي المصمم منها افكاره التصميمية".

وكما اشرت في كتابي "تناص معماري" الصادر في دمشق سنة 2007، فان مجال "التناص" لا يقتصر على الجانب الادبي، وإنما يتضمن كل ما انتجته الحضارة الانسانية من علوم وآداب وفنون. ولهذا فهو يوظف في آليات النقد المعماري ايضاً. ويتوخى التناص هنا دراسة تداخل القيم والافكار التى تعود لمنشأ معين ولعمارة مبنى’ خر، ويجعل من ذلك التداخل بمنزلة حاضنة فكرية يستقي المصمم منها افكاره المعمارية. كما ان التناص معني في كشف العلاقات الثنائية بين منجز معماري محدد (باعتباره نصاً ابداعيا)، ومنجز آخر. بين أطروحة معمارية وأخرى. انه ينشد الى إدخال قيم تعود لثقافات متنوعة ولطروحات معمارية محددة، وتجعل منها خطاباً لمرجعية فكرية تنهض عليها الممارسة الابداعية. فقيم الاثر المميز معمارياً والاستثنائي في فكرته التصميمية... يتبدى بمدلول آخر يضاف الى مدلوله الخاص والمعرف به ضمن سياق المفاهيم الثقافية والمعمارية التى ينتمي اليها عبر قراءة مختلفة وتأويل مغاير". (خالد السلطاني، تناص معماري، ص. 12).

لكن عملية التناص المعماري، كما نفهمها، هي عملية ابداعية يلجأ اليها المعمار بمحض رغبته سعياً لإثراء منجزه التصميمي. فهي في هذا المفهوم ليست لاغية لشخصية المعمار/ المؤلف المتناص مع منجزه مع الآخر. بمعنى ليس من ثمة "موت لمؤلف" هنا، وفقاً لاطروحة "رولان بارت". بل العكس صحيح. اذ ان فعالية التناص تُكرس حضور المعمار في العملية الابداعية وتمنح منجزه نكهة خاصة تكون في اغلب الحالات نكهة فريدة واستثنائية الخصائص. وهي بهذا لا تلغيه كما انها قطعاً لا تميته! فهي ما انفكت تشير الى قيمة الفعل الابداعي له وتؤكد على اجراءات الناتج التصميمي المتحصل كونه ناتجاً متجاوزاً لدلالات القيم المتناصة من خلال آليت التأويل التى يوظفها المبدع سعياً للحصول على قراءة آخرى. ومثل هذا بالذات ما قام به معمار مسجد ابي دلف، في تأويله الخلاق لمنجز زميله معمار "مسجد سامراء الكبير" الذي شيد سابقا.

في اضافاته المؤثرة والتجديدية، يسعى معمار مسجد ابي دلف وراء ان تكون منظومة توزيع الاعمدة والركائز في مسجده، مختلفة نوعا ما لدى منظومة "نموذجه البدئي" Prototype والاثير، وهو مسجد سامراء الكبير. وهذا الاختلاف يسوغه سعي المعمار بالنأي بعيدا عن تكرار نوعية الحالة التطبيقية التي جرى استخدامها في مثل تلك المنظومة. اذ تبين ان ثمة سلبيات واضحة نجمت عن ذلك الترتيب وافضت الى نوع من حدوث "عتمة" (حتى ولو كان الوقت نهاراً) داخل الاحياز المسقفة وخصوصا في بيت الصلاة ذات العمق الواسع الذي بلغ مداه اربعين متراً. وهو امر حدا بمصممي المسجد الجديد لايجاد ترتيب آخر يتوخى منه إزالة تلك السلبيات قدر المستطاع ويحث على استبعادها. وهو ما افضى الى توظيف مثل ذلك الترتيب المتحقق الذي رأيناه في منظومة توزيع الركائز والاعمدة المستخدم في مسجد ابي دلف. وهو نظام يعتمد على ترتيب خاص للركائز والاروقة في "الحرم" بصورة عمودية في اتجاه شمال جنوب، ما أفضي لجعل بلاطاته أن تكون بمثابة "ممرات ضوئية"، يمكن بها نقل الضياء الى ابعد مدى، وبالتالي تسهم في "تحييّد" السلبيات الناجمة. وبالاضافة الى ذلك، فقد إرتأى معمار مسجد ابي دلف، ان يكون الرواق الاخير (السابع) في قاعة الصلاة/ الحرم، مختلفاً عن سياق منظومة توزيع اروقة الاعمدة المتبعة في بيت الصلاة. فاتجاه الرواق هنا يمتد شرق – غرب، ولاجل اعطاء اهمية خاصة للاسكوبين الاخيرين، فقد ابتغى المعمار ان ينهي الرواق السادس في بيت الصلاة بهيئة تماثل الرواق الاول الذي جاء على شكل حرف (T) اللاتيني (والذي اتينا على ذكره في بدء هذة الدراسة). ونعتقد ان اللجوء الى هذا التباين المتعمد، يمكن ان يكون باعثا لايجاد مصادر اضاءة اضافية لبيت الصلاة وخصوصا في تلك المنطقة النائية عن مصدر الاضاءة الرئيسي وهو الصحن المكشوف. كما اننا نفترض ان تسقيف هذة المنطقة تحديدا كان مختلفا وربما كان اعلى من بقية منسوب تسقيفات القاعة الرئيسية في بيت الصلاة، لجهة "غمر" تلك المنطقة المهمة القريبة من المحراب بنور طبيعي كافٍ. ".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram