د. طلال ناظم الزهيري
لا شك أن الهدف الأهم لمعظم طلاب الجامعات العراقية اليوم هو نيل شهادة جامعية تمكنهم من الحصول على فرصة عمل، بالتالي غالبا ما يكون توجه الطلبة الذين تتاح لهم فرصة اختيار التخصصات الدراسية إلى البحث عن تلك التخصصات التي تدخل في نظام التعيين المركزي مثل المجموعة الطبية، أو تلك التخصصات التي يوجد لها سوق عمل مفتوح مثل (القانون وعلوم الحياة والحواسيب... الخ).
اما الطلاب الذين لا تتاح لهم فرصة اختيار التخصص الدراسي لتدني معدلاتهم الدراسية والذين يشكلون النسبة الاكبر من مجموع متخرجي الدراسة الاعدادية فامرهم متروك الى نظام القبول المركزي الذي من النادر ان يضع الطالب في التخصص الذي يرغب به او ينسجم مع قدراته لأن اساس المفاضلة غالبا ما يعتمد على معدل الدراسة الاعدادية بالتالي نسبة كبيرة من هؤلاء يتحولون الى الدراسات المسائية او التعليم الاهلي للحصول على فرص افضل. ومن المهم الآن التركيز على ضوابط وتعليمات القبول التي نحاول ان نشخص مكامن القوة والضعف فيها. الجانب الايجابي في آلية القبول المركزي انها تعتمد على خوارزمية تنفذ آليا وفقا لاعتبارات المعدل ودروس المفاضلة بالتالي تضمن العدالة في التوزيع بعيدا عن الاعتبارات الاخرى، وغالبا ماتكون نسبة الخطأ محدودة او تقع على مسؤولية الطالب في طريقته بالاختيار. اما الجانب السلبي فهو ان الطالب ملزم في ادراج عدد كبير من التخصصات حتى تلك التي لا يرغب فيها ولعل تحول عدد كبير من الطلبة الى الدراسات المسائية او الكليات الاهلية غالبا ما يكون للاسباب الاتية.:
ـ قبول الطالب في تخصص دراسي لا يرغب به او لا ينسجم مع طموحاته المستقبلية.
ـ قبول الطالب في جامعة بعيدة عن محل الاقامة.
ـ قبول الطالب في تخصص ليس له سوق عمل.
ـ قبول الطالب في تخصص بعيد عن رغبة الاهل وتوقعاتهم.
وقد تكون هناك أسباب أخرى. ولأن نقطة الشروع في بناء نظام تعليمي جيد تبدأ من هذه المرحلة بالتالي كان على وزارة التعليم العالي أن تجري مراجعة دورية وتنفذ مجموعة من الدراسات التي من شأنها أن تعطي نتائج دقيقيه عن ملاءمة هذا النظام والجدوى منه ام هناك حاجة إلى البحث عن نظام بديل يمكن أن يحقق نتائج أفضل. على سبيل المثال يمكن التحقق من علاقة المعدل بالتفوق الدراسي من خلال اختيار العشرة الأوائل من كل قسم. واختيار العشرة الأعلى معدل قبول في المرحلة الأولى من نفس الوجبة. والتحقق من النسبة والتناسب. فإذا ظهر أن النسبة الأعلى من الأوائل في القسم هم ذاتهم من أصحاب المعدلات العالية فهذا يدل على أن معدل الدراسة الإعدادية هو مؤشر مبدئي على التفوق المستقبلي وقد يكون الأمر خلاف ذلك في حال تراجع أدائهم كلهم أو البعض منهم. وبالتأكيد هناك وسائل تقييم أخرى. المهم الآن أصبحنا ندرك أن نظام القبول المركزي لم يعد يستجيب لمتطلبات المرحلة في ظل تراجع مستوى التأهيل فضلا عن ضعف الرغبة في التعلم حتى تحول الهدف لمعظم الطلاب إلى الحصول على الشهادة الجامعية بقطع النظر عن مستوى التأهيل والمهارة التي يحصل عليها الطالب.
كما لا ننسى ان نظام القبول المركزي يسهم في تاخر التحاق طلبة المرحلة الاولى بمقاعد الدراسة سنويا ويؤثر على نظام القبول في الدراسات المسائية او الكليات الاهلية. وعلينا ان نتفق اولا على ان استراتيجية التعليم في العراق يجب ان تنطلق من مبادئ اساسية جوهرها التعليم حق للجميع على ان يكون التعليم الاساسي الزاميا والتعليم الثانوي اختياريا والتعليم الجامعي امتيازا. ونقصد بالامتياز هنا للطلبة المجتهدين أصحاب الأهداف المستقبلية. لقد أدركنا خلال العقدين الماضيين أن فتح المجال للجميع في التعليم الجامعي من خلال تنوع وتعدد قنوات القبول انعكس سلبا على الطلبة أنفسهم إذ ضاقت على المتميزين منهم فرص الحصول على مجالات عمل تحقق طموحاتهم. خاصة وأن سوق العمل الحكومي لدينا ضاق بشكل كبير بعد أن أتخمت المؤسسات والدوائر الحكومية بعدد كبير من الموظفين يفوق حاجتها الفعلية، ولا ننسى ضعف القطاع الخاص الذي لا يزال يعاني نتيجة الإهمال الحكومي خلال العقدين الماضيين. ومما يؤسف له أن من التحق بالوظائف تلك لم يكونوا في الغالب من المجتهدين والمتفوقين دراسيا لاعتبارات متعددة ومعروفة سلفا. بل على العكس من ذلك تماما. إن البحث عن سبل لتقويم هذه الحالة يجب أن يبدأ من الآن من خلال وضع دراسات ومقترحات علمية تنسجم مع واقعنا المحلي، وليس علينا أن نستنسخ تجربة بلد آخر التي قد تكون مقومات نجاحها متاحة هناك وغير متوفرة لدينا. وأعتقد أن هناك نقاط شروع يمكن البدء بها من الآن على أن يتم تطوريها مستقبلا وصولا إلى الحالة المثالية:
ـ يجب ان يرفع معدل النجاح في الدراسة الاعدادية الى 60%. كحد ادنى.
ـ يجب ان يرفع الحد الادنى لمعدل القبول في مؤسسة المعاهد الى 65%.
ـ يجب ان يرفع الحد الادنى لمعدل القبول في الكليات الى 70%.
ـ مراجعة شروط القبول في الدراسات المسائية على ان يقلص الفارق في المعدل بينها وبين الدراسات الصباحية الى 5 درجات فقط.
ـ وضع اوزان مختلفة للمواد الدراسية وفق اهميتها للتخصص الجامعي. فمن المنطقي ان يقبل الطالب في قسم الكيمياء على سبيل المثال اذا كانت درجته فوق 80% ومعدله العام لايقل عن 70%. وبالمثل لباقي التخصصات العلمية.
ـ التوسع في نظام القبول المركزي المباشر ليشمل عدد اكبر من الاقسام.على ان يتاح لهذه الاقسام اجراء اختبار مركزي شامل بموضوعات تنسجم مع متطلبات الدراسة في تلك الاقسام للطلبة الراغبين بالتقديم عليها على ان تكون درجة الاختبار 50% ويتم معادلة معدل التخرج من الاعدادية على اساس 50% ايضا.
ـ بالنسبة لكليات المجموعة الطبية والهندسية يجب ان يتم اجراء اختبار مفاضلة في المواد الاساسية لابعاد من حصل على معدل عالي بطرق غير شرعية عن مقاعد الدراسة فيها والابقاء على حظوظ المتفوقين منهم.
ـ امكانية دراسة مقترح الاستاذ محمد الربيعي الذي نشره في جريدة المدى في وقت سابق في ما يخص تمديد مدة الدراسة الجامعية لضمان حصول الطالب على المهارات التطبيقية و المعرفية في ظل التطور الحاصل في مختلف المجالات العلمية والانسانية.
عودة الى ذي بدأ سوف نجد ان التوجه العام للشهادة الجامعية اليوم غالبا ما يكون مرتبط بالبحث عن وظيفة و فرصة عمل، لكن ما لا يدركه البعض ان الشهادة احيانا تكون ذاتها عائق للحصول على فرصة عمل. الكثير من الطلاب يخسر اربع الى خمس سنوات من عمره في سعيه للحصول على الشهادة الجامعية التي في كل الاحوال لن تكون جواز مرور مؤكد للوظيفة العامة، في الوقت الذي كان بامكانه خلال هذه المدة ان يعمل على تطوير مهاراته في مجال مهني معين او ان يبدأ مشروعه الخاص. ما يثير استغرابنا ان هناك مئات الالاف من طلبة المرحلة الاعدادية يطمحون الوصول الى الجامعات وهم يعلمون ان هناك الالاف من خريجين الجامعات قبلهم لا يزالون عاطلين عن العمل ومعظمهم بعد ان هدر اربع سنوات عاد ليمارس عملا كان يمكن ان يمارسه بشهادة الاعدادية. اذن هل هذه دعوة الى هجر التعليم الجامعي.!!. او هي دعوة لقتل الطموح لشبابنا. اقول كلا والف كلا. هي دعوة لترتيب الاولويات واستثمار الوقت و تحقيق المنفعة الذاتية. اذا كانت رغبتك بالشهادة الجامعية هي هدف شخصي و ترفع من القيمية الاعتبارية لك، اذن عليك ان تسعى اليها بالاجتهاد والتحصيل. اما اذا كانت الشهادة بالنسبة لك عمل فعليك ان تعلم ان الشهادة الجامعية لم تعد المفتاح السحري للحصول على الوظيفة. العالم اليوم يشهد تحولات اجتماعية وتغيرات مهنية اطارها العام هو تحقيق الاكتفاء المادي. مفهوم النجاح في الحياة اليوم هو ان تمتلك مورد مادي مناسب يمكنك خلال مدة زمنية من ان يكون لك منزل واسرة وقادر على توفير متطلبات الحياة الاخرى. قد يلوم البعض الحكومة على ما وصلنا اليه، وانا اتفق ان جزء كبير من المشكلة كان بسبب الحكومات المتعاقبة على حكم العراق. لكن الحق يقال ايضا ان البطالة ظاهرة عالمية واحدى اهم المعضلات التي تواجه الدول كبرى كانت ام صغرى غنية كانت ام فقرة.
ان الدعوة اليوم الى تقديم المهارة على الشهادة في الكثير من الدول المتقدمة كانت الغاية منها توجيه انظار الشباب الى تقديم التعلم على التعليم. اذن ان تطوير المهارات التقنية والمعرفية ضمن برنامج تعلم ذاتي تضعه لنفسك يمكن ان يحقق لك ما كنت تحلم به من اهداف ولدينا امثلة عن شخصيات ارتقت سلم المجد والثروة ليس بفضل شهاداتهم الجامعية بل بمشاريع خاصة بدأت باعمال صغيرة وانتهت الى مشاريع عملاقة. ان ملامح الطرق ومثابتها اصبحت واضحة ومن حق الجميع الاختيار بين تطوير المهارة ام الحصول على الشهادة. لكن على وزارة التعليم العالي ايضا ان تحدد اولوياتها بان تجعل التعليم الجامعي في العراق يتناغم مع سوق العمل ويستجيب لمتطلباته. لا معنى اليوم لوجود الكثير من الاقسام الدراسية والتخصصات التي لم يعد لها سوق عمل حقيقي يمكن ان يوفر فرص عمل لمخرجاتها. ختاما هي دعوة لمراجعة نظام القبول المركزي في الجامعات العراقية فضلا عن مراجعة اهمية استحداث دراسات اكاديمية اكثر انسجاما مع متطلبات القطاع الخاص والتركيز على المكتسبات المهارية و المعرفية كضمان حقيقي لجودة مخرجات الجامعات العراقية.