طالب عبد العزيز
أنجزت إحدى الشركات المحلية الممشى الرابط بين مقطعي الكورنيش(الشمالي والجنوبي)في البصرة، فكان بحق غايةً في الجمال والاناقة، فهو ينطلق وبحركة معمارية ذكية، على شكل هلال مطوقاً مدخل نهر الخورة وكازينو شط العرب ليصل المقطعين ببعضهما. السور المطلي بالنيكل بشكله الخلاب والارضية المفروشة بالخشب، التي تشبه مرسى صغيراً للسفن، والانارة متبدلة الالوان، وكذلك كابينات استراحة المتجولين، التي تمكن الجالسين فيها من معاينة ضفة الشط الشرقية، وباجمال نقول: الممشى تحفةٌ فنيّة.
لكن، لا أعرف لماذا نتأت أمامي، ومثل علة مستعصية، ثنائية البداوة والتحضر التي طرحها الوردي في لمحاته، ربما لأنَّ مجموعة من الصبيان مرّوا صخّابين بأهازيج شعبية، ومفردات بذيئة لا تتناسب مع أناقة المكان وجماله، أو لأنني قادم من منطقة تفكير مختلفة، فالشعر صاحب غثيثٌ، يرفع يده احتجاجاً على كل ما لا يتوافق مع إرادته، التي تريد الحياة بأمكنتها وأزمنتها خالية من النشاز والمنغّصات. ودونما بحث طويل في الاسباب سمعت أحدهم يقول بأننا في الـ... (اتحفظ على ذكر المدينة) لم نرَ مثل هذه! وبعبارته الدارجة(وين شايفين)؟ لم أحمل جملته محمل النقيصة في الوعي، أبداً وإنّما ذهبت الى الابعد والابعد، أو بعبارة سان جون بيرس:" سمّوني الغامض، وكان حديثي عن البحر".
ليس هذا ما يستفزُّ، إنما حجم الاضداد الذي تنطوي عليه النفس العراقية! كنتُ أحدِّثُ أصدقائي بحديث مفاده إنَّ التحولات الاجتماعية والرخاء الاقتصادي والمدنية تلقي بظلالها على حياة الناس باتجاه الاحسن والافضل في السلوك، وإنَّ المبنى الجميل لا يحتمل تعليق يافطة نعيٍّ سوداءَ عليه! هكذا، وفي حلم مستقطع رحتُ أدافع عن وجهة نظري هذه، التي لم تتحق يوماً، ففي بيوت مطرمحة وجميلة، ومن بطون سيارات فارهة حديثة، ومن أفواه ناس أغنياء جداً، يرتدون أجمل وأغلى الثياب، ويحملون هواتف من ذهب، وخواتم وساعات من الماس... وقد مهّدت الحياة لهم كما يشتهون وأزيّد، كنت أسمع وفي أحايين كثيرة أقبح الكلمات، وأقع على أدنى السلوك، واشمُّ روائح كريهة، طائفية وقبلية، نفاجة، وبغضاء وتحقير وتنمّر فأجدني متراجعاً عن اطروحتي الشاعرية تلك.
ربما يكون التخلف في السلوك الانساني ناجماً عن وعيٍّ متدنٍ، وقد يكون نتيجة طبيعية لضاغط ما، والضواحي الشعبية والمتخلفة في الخدمات تنتج اناساً موتورين، متشددين، غاضبين ومجرمين ربما، وهنا ستكون مؤسسات الدولة امام مسؤولياتها، بتغيير الواقع المزري ذاك الى واقع آخر أجمل وأفضل منه، كيما تجنب مواطنيها ما قد ينتج عن سوء الحال ذاك، لكنَّ المفارقة أنَّه وفي بعض المدن العراقية نجدُ أنَّ السلوك العداوني وغير المعقول ظلَّ لاصقاً بالشخصية، وهي قرينته وإن حلَّت في أجمل الامكنة، وتنعمت بالمال والثياب والسيارات والهواتف، وظلت رهينة سلوكها الاول، غير مغادرة له، بل، وتعمد الى استلاله في أيِّ متنَفَس خارج القانون، وعند أيِّ طارئ، موجب أو غير موجب، متخليةً عن كلِّ ما لديها.
يبدو لي وإن كانت فكرة غريبة أنَّ تسمعَ أغنية لفيروز وأنت تتناول القيمر مع العسل بالرغيف الساخن في فطورك الصباحي أمرٌ متقبَّلٌ وطبيعي، وهو من أفعال كثير من الناس، لكنَّ الامرَ سيكون مُستهجناً، وغيرَ متخيل أيضاً، سماعك فيروز وأنت تأكل الباجة والكراعين في ساعة متاخرة من الليل بسوق الصدرية، مثلاً!! ومثل هذه يمكننا أنْ نتحدث عن قضايا أخر في حياتنا اليومية، فنحن قد نبدو رعناء وحمقى إذا حضرنا وبثياب المآتم والمقابر حفلاً موسيقياً يقام في إحدى الصالات المعدة لهذا الغرض، وستكون الرؤيا ذاتها إذا دخلنا المقبرةً بزجاجة خمر وآلة موسيقية. المشكلة أنَّ البعض يفعل ذلك بدراية منه أو بدونها، وما سلوك هؤلاء الصبية في الممشى الجميل بخارج عن ذلك، بل وما يقوم به بعض المحسوبين على الوعي والثقافة في خصوماتهم الجانبية ببعيد أيضاً، ولا نستثني المئات من أصدقائنا ومعارفنا، ممن يخربون علينا حياتنا بمناسبة أو بدون مناسبة. السلوك العراقي العام بحاجة الى مراجعة جدية، نحن نتراجع في مواطن انسانية كثيرة، وربما نكون تجاوزنا حدود البداوة الى غيرها.
جميع التعليقات 1
kadhim mostafa
حتى البداوة من عادات وقيم بريئة مما يحصل من قبل بعض في العراق