لطفية الدليمي
السيرة الذاتية والمذكرات جنسٌ أدبي أحبّه كثيراً، وأظنُّ أنّ كثيرين يشاركونني هذا الحب. ليس هذا الحب ظاهرة مخصوصة للعراقيين والعرب بل هو ظاهرة بأبعاد عالمية. أعتقدُ أنّ هذا الحب لهذا الجنس الادبي يتأتّى من مصدريْن:
المصدر الاول هو الفضول البشري لمعرفة كيف عاش أناسٌ جاءوا هذا العالم قبلنا، وكيف تفاعلوا معه وخاضوا مشقاته. الحياة لعبة شاقة وليست حفلة شاي، وسيكون من المفهوم أن (نتلصّص) بطريقة مشروعة على التفاصيل الصغيرة لحياة بعض البشر المميّزين ممّن يستحقون أن تروى حكاياتهم بكلّ تفاصيلها التي يرونها ممكنة لإطلاع الآخرين. المصدر الثاني هو الرغبة الجامحة لتفادي الاخطاء التي يمكن تفاديها في أو تقليل نتائجها المعرقلة لمسيرتنا الحياتية والمهنية. السير الذاتية والمذكرات (الجيّدة) هي في النهاية مناجمُ خبرة جاهزة لمن يسعى للإنتفاع منها.
السير الذاتية والمذكرات الخاصة بالاطباء لها نكهة خاصة وخصوصية تميّزها عن سواها. المعروف عن الاطباء أنهم كائنات محافظة Conservative، ذوو ميول مهنية تتمحورُ على ثلاثية (الارتقاء المهني- العيادة- الوجاهة الاجتماعية)، يمثلُ المال دعامة مركزية في نشاطاتها وتطلعاتها بأكثر ممّا يفعل مع ذوي المهن الاخرى. القانون لدى معظم الاطباء في العادة هو: أن تكون طبيباً يعني بالضرورة أن تكون ثرياً وذا حظوة إجتماعية ضاربة. هم يرون في هذه المزايا حقوقاً طبيعية لهم يسعون لتوريثها لأولادهم كجزء جاهز التكوين من مواريثهم المهنية والمادية. قلّما يمكن أن نعثر على نموذج ثوري لطبيب مثل (تشي غيفارا)؛ لكن هل كان غيفارا طبيباً ممارساً؟ لم يكن كذلك.
الشائع – ولعلّه صحيح إلى حدّ بعيد- أنّ الاطباء قلّما يقرأون خارج نطاقاتهم المهنية؛ بل ثمة بينهم من لا يقرأ حتى في هذه النطاقات ما لم ترتبط هذه القراءة بإمتحان أو تحضير لشهادة مثل MRCP، FRCS أو البورد بأشكاله المتعددة (عراقي، عربي) وسواها.
اتيحت لي في العقود الثلاثة السابقة قراءة بعض السير الذاتية والمذكرات الخاصة بأطباء عراقيين كسروا هذه الصورة النمطية الشائعة عن الاطباء، وأخصُّ منهم ثلاثاً: الاول هو الدكتور كمال السامرائي في سيرته الذاتية (حديث الثمانين) الصادرة بأربعة أجزاء بطباعة سيئة أيام الحصار الظالم على العراق في تسعينيات القرن الماضي، وقرأت قبل أيام أنّ هذه السيرة المهمّة أعيدت طباعتها بإخراج فني جيّد. الثاني هو الدكتور فرحان باقر في كتابه (حكيم الحكّام من قاسم إلى صدّام)؛ أمّا السيرة الثالثة فهي للدكتورة سانحة أمين زكي وعنوانها (ذكريات طبيبة عراقية). قراءة هذه السير الثلاث متعة كبيرة لما تحتويه من تفاصيل دقيقة عن طبيعة الحياة العراقية في بدايات نشوء الدولة العراقية المعاصرة ثمّ في السنوات اللاحقة.
لكن ثمّة سيرة رابعة قرأتُ بعض أجزائها على مدى سنوات عديدة متسلسلةً في موقع كاتبها الدكتور عبد الهادي الخليلي. ما شدّني إلى هذه السيرة هو الذائقة الفلسفية الرفيعة والحسّ الادبي اللذان صارا علامة مميزة لها. خطّط الخليلي لنشر هذه السيرة بجزئين من القطع الكبير يتجاوز كل منهما عتبة الستمائة صفحة، إختار للجزء الاول منها عنوان (رحلتي في الطب والحياة: سيرة حياة وذكريات طبيب عراقي من وادي الرافدين).
سيرة الدكتور الخليلي مشحونة بتفاصيل كثيرة عن بدايات حياته تصلح ان تكون خريطة سوسيولوجية وأنثروبولوجية للمجتمع العراقي في طبقته الوسطى على أقلّ تقدير، كما ترسم لنا الخطوات الوئيدة التي كان العراق يترسّمها على طريق بناء دولة حديثة في الشرق الاوسط.
كثيرةٌ هي التفاصيل الغريبة والمدهشة في هذه السيرة. سعى الخليلي منذ بواكير طفولته لأن يكون طبيباً، وأخلص لحلمه هذا بل قاتل في سبيله. ربما سيكون غريباً على القارئ أن يتصوّر قامة علمية شامخة مثل الدكتور الخليلي جاءت نتيجتها (مكملاً) في إمتحانات البكالوريا للصف الثالث متوسط عام 1956-1957 في درس الاحياء!!. ومن سوء حظ الدكتور أنّ قراراً إتخذته وزارة المعارف آنذاك يقضي بعدم وجود دور ثانٍ؛ لذا اضطر الخليلي للتسجيل في الفرع التجاري؛ لكنه برغم هذا إجتهد وكان الاول على هذا الفرع، ثم أدّى إمتحان البكالوريا ثانية في السنة اللاحقة ونجح فيه. ثمّ كانت العقبة التالية: جاء معدّله في بكالوريا الخامس ثانوي حينذاك أقلّ بدرجة واحدة في المجموع ممّا تتطلبه الكلية الطبية، ثم تشاء الصدفة الطيبة أن ينتقل إلى الكلية الطبية. لم يكن الخليلي طالباً مميزاً في المرحلة الاولى من الكلية الطبية والتي تختصُّ بدراسة العلوم الاساسية؛ لكنّ مسيرة تميزه المهني بدأت بعد ذلك حتى توّجها بأن كان الاول على الكلية الطبية في العام الدراسي 1965 - 1966.
الكتاب مشحون بشعر وفلسفة وأدب وتاريخ وتوثيق معلوماتي في سياق حكائي ضمن المتن السيري وليس خارجاً عنه. المعروف عن الدكتور الخليلي تخصصه الطبي في الجراحة العصبية؛ لكنّه إختار أوّل الامر جراحة محجر العين، وبعدها حصلت ظروف ومصادفات جعلته ينتقلُ إلى الجراحة العصبية. الحياة لا تخلو من مصادفات بالتأكيد؛ فهي ليست سلسلة حتمية من الوقائع السببية الصارمة؛ لكنّ الحظ الطيب لن يطرق باب المتقاعسين أو المتكاسلين. هذا بعضُ ما نتعلّمه من سيرة الخليلي.
يندهشُ المرء من الرغبة الفائقة وغير العادية لحبّ التعلّم لدى الخليلي وفي مجالات قد تبدو بعيدة عن تخصصه الطبي. أحد هذه المجالات هو الحواسيب وإمكانية استخدامها في المهنة الطبية. واضحٌ من سياق السيرة أنّ معرفة الخليلي بالحواسيب ليست هيّنة او عابرة بل تنمّ عن شغف عظيم.
لا تخلو سيرة الخليلي من محطّات مؤلمة كتلك التي يتحدّث فيها عن وقائع إختطافه. تخيّلوا أن يجد رجلٌ مهني طبيب مجبول على المسالمة وحبّ الفكر والدراسة والبحث نفسه مقيّداً بقيود ثقيلة وملقى في الصندوق الخلفي لسيارة وسط ظلمة خانقة وهو يجاهد ليقتصد بالاوكسجين القليل المتاح له!! ثم يبقى يومين أو ثلاثة بين أيدي مجرمين قتلة يريدون المال ولا يردعهم عن القتل رادع أخلاقي أو ضمير إنساني.
ثمّة في سيرة الخليلي مواقف تستوجب التفكّر وإن كانت ليست غريبة على مجتمعاتها. من هذه المواقف مثلاً موقف يحكي الخليلي فيه أنّه كان مسافراً يوماً ما بالقطار من مدينة بازل السويسرية إلى دوسلدورف الالمانية، وقد شاركه في هذه الرحلة شخص ألماني إنتبه إلى أنّ الخليلي راح يقرأ في كتاب خلال الرحلة، وهنا راح هذا الالماني يتبادل أحاديث شتى مع الخليلي متخذاً من الكتاب مسوّغاً لبدء الكلام، وظلّ الاثنان يتبادلان الاحاديث في شؤون كثيرة (سياسة، إقتصاد، تعليم، شؤون طبية بل وحتى حلف الناتو). عندما حانت ساعة الوداع لحظة وصول القطار دوسلدورف عرّف الرجل الالماني نفسه: أنا فلان رئيس الحزب الديمقراطي المسيحي الالماني!!.
نتيجتان، واحدة طيبة وأخرى سيئة، سينتهي إليهما القارئ بعد قراءة سيرة الخليلي. أما الطيبة فهي هذا الثراء المعرفي والمهني لطبيب فيلسوف سيكسرُ الصورة النمطية المرسومة للطبيب العراقي في مخيلتنا الجمعية بفعل التواتر الحكائي غير الخاضع للمساءلة والتمحيص. أما النتيجة السيئة فهي أن سيرة الخليلي(وسيرة عائلة الخليلي بعامة) تكشف لنا أننا خسرنا ميراثنا الليبرالي الضئيل المبشّر بإمكانية بناء دولة محترمة، لننتهي لاحقاً إلى أن نكون لادولة تائهة في محيط دولي من غير بوصلة أو خريطة ملاحية أو ربّان له بعض المروءة والنزاهة والعفّة.
جميع التعليقات 1
Anonymous
مقال رائع للمبدعة الكبيرة لطفية الدليمي التي لا يضاهيها احد في التقاط نقاط الضوء والعتمة التي عاشها العراقيون .. ومايزالون. .