ستار كاووش
لم يتوقع الفنان الفرنسي الشاب -الذي ظَلَّ مجهولاً لهذه اللحظة- بأن تصدعاً صغيراً في رصيف الشارع المؤدي الى مشغل السيراميك الذي يعمل فيه، سيحوله الى فنان فريد وشهير في كل العالم. فما حكاية هذه الحفرة الصغيرة التي حدثت في الشارع؟
وكيف غَيَّرَتْ حياة هذا الفنان الى الأبد؟! إبتدأ الأمر في صباح أحد الأيام في مدينة ليون الفرنسية، حين كان هذا الفنان متجهاً بدراجته النارية الى ورشة السيراميك، وهناك لفَتَتْ إنتباهه حفرة أو ثُلمة صغيرة على الرصيف، كان يمر بها آلاف الناس ولم يعيرها أحد منهم أي إنتباه، لكن هذا الفنان ظلَّ يفكر بها حتى بعد أن وصل الى مشغله، وبحلول المساء حملَ معه قطعاً صغيرة من الموزائيك الموجود في المشغل وبعض الأسمنت وكماشة صغيرة لتقطيع الإحجار الملونة، وإنطلق نحو ذلك التصدع وبدأ بتغطيته بقطع فسيفساء بلون أزرق وأسود ورمادي ووردي بهيئة تشبه جزءً من رقعة شطرنج، ثم أكملَ طريقه الى بيته. وفي صباح اليوم التالي أثناء مروره المعتاد في الطريق ذاته، أثارَهُ وإستهواه إلتماع قطع الموزائيك التي ثبتها على تلك الحفرة. فقد بدا ذلك الأثر الذي تركه ليلاً كإنه مصباحاً يضيء رتابة الشارع، والقطع التي ثبتها بيديه كإنها لُقى أثرية إنبثقت من تحت الرصيف. وصل الى مشغله وظلَّ يفكر جدياً بالأمر، حتى إلتمعت في ذهنه فكرة أن يردم كل التصدعات التي تصادفه على أرصفة وشوارع مدينة ليون.
وهكذا بدأ هذا الفنان يخرج خفية بعد منتصف كل ليلة وهو يحمل أدواته وقطع الموزائيك الملون، باحثاً عن تصدعات الشوارع، وما أن يخرج الناس في صباح اليوم التالي نحو أعمالهم، حتى يجدوا شيئاً ملوناً على هذا الرصيف أو تلك الجادة. لتتحول أعمال هذا الفنان الى ما يشبه القلائد التي تتلألأ على صدر المدينة، ومع الوقت صارت أعماله تزداد تنوعاً وألواناً وتصميمات مختلفة، وأخذ يدرس شكل الحفر أو الانكسارات الموجودة على الأرصفة أو الشوارع، ويضع لها في المشغل مجموعة من الاحتمالات والحلول على الورق وبذات الحجم الطبيعي للحفرة بكل زواياها وإنحناءاتها، ثم تأتي اللحظة التي يخرج فيها بدراجته ليلاً مثل باتمان، ليردم الحفر بألوانه الساحرة. وهكذا صار الناس يتعثرون كل صباح بما يشبه المكتشفات الأثرية الباهرة، ولا يعرف أحداً منهم من الذي قام بهذا العمل العجيب والجميل. فيما ظلَّ هو يفاجئهم كل مرة بشيء جديد في مركز المدينة وعلى أطرافها أيضاً، وهكذا تمتْ تغطية الثغرات الموجودة في شوارع مدينة ليون بتحف تُثير البهجة والمرح والسعادة لكل من يراها، وصار الناس يبحثون هنا وهناك في الزوايا غير المتوقعة عن كل أثر يتركه هذا الفنان المجهول الذي عشق المدينة ومنحها قلائداً من الفسيفساء، حتى أطلق عليه البعض ألقاباً عديدة مثل الأم تيريزا المعتنية بالأرصفة، طفل الأسفلت، شاعر الموزائيك وغيرها الكثير..
لكن حكاية هذا الفنان لم تنته بعد، فبعد أن غطى المدينة بأحجاره الملونة، أنتقلً الى مدينة باريس ومدن فرنسية أخرى ومضى يترك بصمته هناك، ولم يكتفِ بذلك بل تحول الى اسبانيا حيث مدينة مدريد وبرشلونة وغيرها ليضع بصمته على شوارعها، ثم إنتقلَ الى إيطاليا والنرويج واسكتلندا وغيرها من البلدان التي مازالت تستقبل اعماله التي يضعها بسرية تامة. يالهذا الشاب الذي جابَ العالم بسبب حفرة صغيرة قرب مشغله، ليشغلَ الناس ويكون الحديث الدائم لمحبي الجمال البسيط والآسر، الجمال الذي يبدو خارجاً من رحم الأرض، والذي يلمتع مثلَ أقمار صغيرة ملونة على أرصفة العالم.
مع كل هذا النجاح والشهرة التي حققها هذا الفنان، فهو بقي مجهولاً ويعمل بسرية تامة، ولا يعرفه أحد سوى من أعماله التي مازال يوقعها بإسم يبدو غريباً وهو (إيميميم) وهو يقول بأنه قد إستلهم هذه الكلمة من صوت دراجته النارية الذي يصدر منها عند الانطلاق ليلاً نحو كل عمل جديد. وقد قامتْ بعض المتاحف بمحاولات للتواصل معه، لكنه كان دائماً ما يفضل التواري خلف قطع الموزائيك التي يبتكرها بمحبة وعناية. وحتى بعض جامعي الأعمال الفنية سعوا للحصول على بعض أعماله، لكنه كان يتردد في ذلك، وفَضَّلَ أن يبقى طفل الرصيف الذي لا يعرفه أحد والذي تملؤه السعادة وهو يترك خلفه هذه القصائد الملونة وهذه الترنيمات الأليفة والمضيئة التي عشقها الجميع. لكن هل سيبقـى هذا الفنان مجهولاً بشكل دائم مثل الشخصيات الخيالية في القصص المصورة؟ وهل ستأخذ أعماله أماكنها في أماكن أخرى غير متوقعة؟ هذا ما ستُخبرنا به الأيام القادمة. في النهاية، استطاع هذا الفنان أن يجعل الفن جزءً من حياتنا وفي متناول الجميع وليس فقط حبيساً بين قاعات العرض والمتاحف. وبكل الأحوال إستطاع هذا الفنان أن يقدم فناً فريداً وشخصياً… حتى وان كان على قارعة الطريق.