اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > ذاكرة ثقافية: (الستينات)..يقظة أم حلم؟

ذاكرة ثقافية: (الستينات)..يقظة أم حلم؟

نشر في: 26 مارس, 2024: 11:41 م

جمال العتّابي

في نهايات شارع الرشيد من جهة الباب الشرقي تقع (مقهى السمر)احدى أهم المقاهي الماكثة في ذاكرة الثقافة العراقية، كان روادها من طراز خاص، يتحدثون بلغة لا يفهمها المخبرون السريون، لا يدركوا معناها، إلى أية لغة من لغات العالم تنتمي؟

ة، جمهرة من الشباب(جليل حيدر، عبد الستار ناصر، شريف الربيعي، ابراهيم زاير، منعم العظيم،عادل كاظم، وليد جمعة، حسين عجّة، فالح عبد الجبار، عبد الرحمن طهمازي، بسام فرج، فاضل عباس هادي، سركون بولص، قتيبة التكريتي، يوسف الحيدري،عبد القادر الجنابي، طارق الدليمي وآخرون) يلتقون فيها صبح، مساء، يتجادلون، ويختلفون، تتصاعد أصواتهم وتخفت، يغنون ويقرأون …. تلك المقهى، ملتقى هؤلاء كانت في شارع سينما الخيام.

من المفارقات المضحكة ان رجل الأمن المكلّف بمراقبة هذه المجموعة خشية أن تكون مهددة للنظام، ظل في حيرة دائمة: في أية خانة من خانات القوى المعادية يضع هذه المجاميع، إلى أية جهة تنتسب؟؟ تساءل بلا جدوى عن هويتها السياسية، فكتب تقريره الى مسؤوله الأمني: "حضرة الضابط…… المحترم، المجاميع في موقع (س 2)، يتكلمون لغة لا أفهمها.. لا أنا ولا غيري يتمكن من فك اسرارها ".

في ليلة من حزيران عام 1967، داهمت الشرطة المقهى، وحشرت (المحبطين) من الهزيمة في سيارة مخصصة للمعتقلين، وقفوا أمام ضابط التحقيق، سأل الحيدري، شنو انت بابا؟ فأجاب:

أنا عندي مجموعة قصص عنوانها: حين يجفّ البحر

انت اللاخ (الآخر)؟ أشار الى عبد الستار ناصر، فأجاب:

- انا صدرت لي مجموعة قصص: الرغبة في وقت متأخر.

- أنت أبو لحية؟ شنو عندك؟ أشار إلى الشاعر فوزي كريم، ارتبك قليلاً، وتراجع الى الوراء، ثم أجاب بصوت خافت ومتقطع: لاشيء.. لا شيء.. عندي مجموعة شعرية (هكذا تبدأ الاشياء)

والآخر، والثاني، والثالث؟؟ انت على شنو يسموك العظيم؟؟. يقصد منعم حسن!

في هذه الاثناء نادى الضابط بصوت عالٍ على المخبر السري، شتمه أمامهم، صرخ بوجهه: جايبلي مجموعة (مخابيل).. ياالله!! (طلعهم برّه لا أشوفك ولا اشوفهم)!

أبناء هذا الجيل قدموا من مدن عراقية في الشمال والوسط والجنوب، مدفوعين بنفس الحلم، متبعين الخطى نفسها، وجدوا أنفسهم في المقاهي حيث النقاش السياسي والثقافي دائر ليل نهار، تجد نفسك بينهم في معركة سحرية جميلة يشارك فيها العشرات من الشباب، كانوا هم من أدرك إن الثقافة ليس مجرد لعبة ايديولوجية كما كانت عند الرواد، انما هي حلم أكبر من ذلك، لديهم شعور بالاختلاف وامتلاك طاقات جديدة ينبغي أن تكون ثورية، بعد سلسلة من الخيبات والانكسارات السياسية التي أعقبت شباط 63، وأيضاً على خلفية هزيمة حزيران. وفشل تجربة القيادة المركزية، التي تركت بصمات قاتمة في أرواح ابناء ذلك الجيل، وشهدت انهيارات نفسية لعدد من الشعراء وكتاب القصة، يومها انضمّ هؤلاء لاجتماع عفوي في (بار البحرين)، حضره عبد الرحمن الربيعي، أحمد فياض المفرجي، سامي مهدي، مالك المطلبي، خالد يوسف، عبد الرحمن طهمازي، جاسم الزبيدي، فايق حسين وآخرون. كان ربيع براغ حدثاً مهماً في حياة المثقفين العراقيين، اختلفوا حوله، أثناء ذلك كانت الطلائع الأولى للمقاومة الفلسطينية بدأت تتشكل بمسميات مختلفة، فاندفع البعض بحماسهم الثوري للالتحاق بها. فجأة تحولوا الى مقاتلين يرفعون السلاح، ومنهم من استشهد في جبهات المواجهة.

كانت الحركة التشكيلية قد شهدت تصاعداً على صعيد الابداع وكثرة المعارض، وبدا ثمة تقارب بين النشاط الثقافي في حيز من الحرية كان مساعداً ومواتياً للتفاعل والدأب على المعرفة، وكانت المكتبات قد ازدهرت بما ترفده دور النشر اللبنانية والمصرية من كتب.

في أواخر الستينيات، ما بعد حزيران، أقدمت الكاتبة سالمة صالح زوجة الكاتب والشاعر فاضل العزاوي على قصّ شعر رأسها، وأحالته الى عنصر أساس في اللوحة، من خلال عملية اللصق والكولاج، وغامرت سالمة ان تقدم أعمالها بمعرض (تشكيلي) اعتمادا على هذه المادة، كان مفاجأة للجمهور بمولودها الحلمي هذا، ومحاولة لافتة للإنتباه، وجدت سالمة الكثير من المسوغات لتصبح أعمالها مقنعة للآخرين في فرحة الخلق، كما هو شعورها إزاء ما تفعل. تشجّع شريف الربيعي ما دام الأمر بهذه السهولة، فأسرع بشراء عدد من قناني حبر الكتابة بألوان مختلفة، سفح الحبر على ورق سميك وحرّكه يميناً وشمالاً، فكانت تكوينات من ألغاز محيّرة لايعرف أن يصفها أحد إلا بلغته الخاصة، ووجد مفرداتها تحمل ألواناً ورموزاً غريبة، عرضها بجرأة (كأعمال تشكيلية) على الجمهور في المركز الثقافي السوفييتي أنذاك.

كان جيلاً مسكوناً بهاجس التحدي، يسعى من أجل الجديد، من أجل المثير، مسحوراً بزعقات اللامعقول، وكيف كانت أصوات بيكيت ويونسكو وأداموف ودورينمات، وغيرهم، تجد صداها في ردود أفعال مشرعة لاظهار الغضب، والتمرد للتعبير عن حالة الجزع، وفساد الواقع، ولكن كم كان الستينيون إذا صحّت التسمية مخلصين لأصدقائهم، الجائع منهم يجد من يدعوه للطعام، وأكثر من مرة شهدت مقهى (المعقدين) جمع مبالغ لدفع ايجارات الاصدقاء الذين يسكنون غرفاً في شارع السعدون، ويعجزون عن سداد بدل الايجار، كان جليل حيدر وعبد القادر الجنابي قد أنقذا الكثيرين من ذلك المأزق، وموظف الضمان الشاعر وليد جمعة، يدعو الجياع في المقهى الى وجبة غداء في مطعم نزار المقابل للمقهى يوم استلام الراتب في (راس الشهر).

في الوقت ذاته شغل العديد منهم ادارات التحرير لأغلب الصحف والمجلات، فكان الشاعر فاضل العزاوي يشرف على الصفحات الثقافية في جريدة (الثورة العربية)، والشاعر خالد الحلي مشرفاً على ثقافية جريدة المنار اليومية، وبمبادرة من الكاتب مؤيد البصام صدرت جريدة (أبناء النور) عن جمعية المكفوفين العراقيين، وأوكل مهمة تحريرها للكاتب والمترجم محسن الموسوي، الى جانب سركون بولص، وعمران القيسي، ونشر طهمازي قصيدته (سلاطين الجحيم)، في أحد أعدادها، وكانت القصيدة الظهور الشعري الأول والمهم لطهمازي، قبل قصيدته (الحسين).

واثناء ذلك صدرت جريدة النصر التي تحولت الى ملتقى مهم للمثقفين، عمل فيها نخبة من الكتاب والشعراء والفنانين، الكاتب جليل العطية الذي برز اسمه من خلال عموده اليومي (كتابات جهين)، الى جانبه عارف علوان، مؤيد الراوي، جعفر ياسين، قيس السامرائي، ابراهيم زاير، ويشارك في التحرير جعفر علي استاذ السينما في معهد الفنون الجميلة. والعلامة الأبرز والأهم من بين المجلات كانت (العاملون في النفط) التي أشرف عليها الروائي والمترجم جبرا ابراهيم جبرا، اذ فتح الباب للكتاب الشباب وكذلك التشكيليين في نشر نتاجاتهم بمكافآت مجزية.

ثم أقدمت السلطة في محاولة منها لاحتواء الكتاب والصحفيين، تحت ذريعة التعيين كموظفين في الحكومة، فاصدرت قرارًا بايقاف تلك الصحف، عام 1967 لتدشين مرحلة جديدة في تحويل الاعلام الى أداة بيد الحكومة، وتقييد حرية الصحافة. وكان للقرار آثاره السيئة على الثقافة والأداء الصحفي معاً، دفع الكثير من ابناء ذلك الجيل الى ترك العمل، ومغادرة الوطن نهائياً حين ضاقت فسحة الحرية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram