اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > سينما > أوبنهايمر والأسرار التي لاترغب أمريكا بالافصاح عنها

أوبنهايمر والأسرار التي لاترغب أمريكا بالافصاح عنها

نشر في: 27 مارس, 2024: 10:44 م

ترجمة: زهير رضوان

تمتد السماء المعتمة على مدى أميال من رمال الصحراء، ومن سقالة مضاءة ينهض الجسم الذي سيغير وجه العالم. أول اختبار لقنبلة ذرية هو المشهد الافتتاحي لفلم "أوبنهايمر" الذي فاز بسبع جوائز أوسكار من بينها جائزة أوسكار أفضل فلم. يستمر المشهد لقرابة سبع دقائق أو نحو ذلك مع تصاعد توتر مطرد.

طوال تلك الليلة، لم يكن ثمة أحد يعلم إن كانت القنبلة ستنفجر، وإن حدث ذلك فلم يكن أحد يعلم إن كانت ستحول العالم بأسره الى رماد.

خلال مشاهدتي الفلم في يوم العرض الأول، تبين لي ان المشهد يولد عذابا نفسيا وجسديا، مع ان التاريخ وثق نتائج الاختبار منذ زمن بعيد. واصلت التحديق في وجوه علماء لوس ألاموس الذين تجمعوا ليشهدوا الحدث الكبير، متربصين تحت النجوم كما لو انهم يشاهدون فلما في سينما مفتوحة، دونما شيء يحميهم سوى ظلالة صغيرة على عيونهم. عالم الفيزياء إدوارد تيلر كان الوحيد الذي بدا وكأنه أدرك الحاجة الى تدبيرات وقائية فوضع حجابا شمسيا.

"أوبنهايمر" فلم يدور حول عبقري واحد وتعاون استثنائي ونقطة تحول في التاريخ. لكنه أيضا درس في الفيزياء التطبيقية: السبيل الى امكانية قيام مادة محفزة الى اطلاق سلسلة من التفاعلات التي لايدرك تأثيرها أو السيطرة عليها. النصر الأعظم الذي حققه جي روبرت أوبنهايمر تحول الى قوى متحركة أدت في النهاية الى سقوطه. الإبتكار الذي صمم لجعل العالم أكثر أمانا على المدى الطويل ثبت انه جعله أكثر خطورة.

في الاختبارات الذرية المتعاقبة خلال سنوات مابعد الحرب، تعرض العديد من الأمريكيين الى الاشعاع على نحو متعمد لمعرفة تأثير الانفجار وما يعقبه عليهم.

بعدما برد رمل الصحراء سار جنود في مارش عسكري عبر مواقع الانفجار. أرسل طيارون ليحلقوا عبر الغيوم التي لاتزال معبقة بالدخان. اصطف بحارة بالقرب من قواربهم. في أرض الاختبار في "يوكا فلات" في نيفادا كانت ثمة فرقة موسيقى عسكرية استدعيت لتعزف موسيقاها. أنا أعرف هذه الفقرة جيدا لأن عمي ريتشارد غيغر كان هو قائد هذه الفرقة الموسيقية.

انضم ريتشارد الى الجيش حين كان في السادسة عشرة عمره، كان شابا اسود في جيش لاتزال نعرة العنصرية فيه. نقل من شرق سانت لويس الى ألمانيا، وفيما هو هناك سمح له بالانضمام الى برنامج تدريب موسيقي في داتشاو يقوده افراد من اوركسترا برلين. غير هذا البرنامج حياته. وعلى مدى العقود التالية ادى وصلات موسيقية الى العديد من الرؤساء وقاد استعراضات عبر مانهاتن وظهر عدة مرات كضيف في برنامج "استعراض إد سوليفان". وفي مناسبات عدة بين عامي 1952 و1955 عزف الموسيقى مصاحبا أكبر قوة مدمرة في التاريخ البشري.

كان في جنوبي الأطلنطي أيضا العديد من الجنود الذين تعرضوا لإشعاع التجربة الذرية يخوضون في المياه المشعة فيما كانوا يردمون الحفر التي أحدثها الانفجار. كان بالامكان سماع رجال الخدمة العسكرية السابقون وهم يتحدثون عن مدى تجاربهم – بفخر وباحساس عميق بالخيانة- في الفلم الوثائقي "لقد رأيت التنين". ظهرعمي في الفلم أيضا.

بعد خمسة وعشرين عاما وخوض ثلاثة حروب تقاعد من الجيش والتقى عمتي إيلين وتزوجها. بدءا بتعليم الموسيقى في مدرسة سان فرناندو الثانوية حيث قادا فرقة المارش لعدة بطولات رياضية. وخلال ذلك قاما بتعليم المئات وربما الآلاف من الفتية والفتيات. يعزو العديد من هؤلاء الفضل لعمي وزوجته بأنهما غيرا حياتهم. أطلق اسم عمي على مبنى مدرسي وتقاطع طرق في المدينة وأقيمت له جدارية ضخمة أيضا.

لكن الخدمة العسكرية التي أداها عمي ريتشارد لاحقه تأثيرها كما فعلت للعديد من أقرانه.

بالنسبة لريتشارد، بدأت المعاناة بورم في الغدة النخامية. أزال الجراحون الورم لكن النتيجة كانت بعد بضع سنوات نزيف في الجمجمة وتلف في الدماغ الذي ساء كثيرا بمرور الوقت.

وأنا طفلة وجدت عمي شخصا لطيفا لكنه مخيف. كان فيه خليط من التبجح بالشجاعة والصرامة العسكرية. عقب النزيف، ذهب كل ذلك. صار بطيء الحركة قليل الكلام. لكن كان باستطاعته العزف، وفي الفلم الوثائقي، زوجته هي التي تحدثت فيما كان ريتشارد جالسا صامتا. توفي عقب ذلك بثلاثة شهور.

على مدى خمسة عقود حظر على العسكريين الذين خاضوا تجربة الاختبار الذري اطلاع أي أحد على الأمر، حتى على أزواجهم أو اطبائهم. وهذا ما يجعل من الصعب حصر أعدادهم أو العواقب الصحية التي عانوا منها مثل سرطان الدم وسرطان الغدة الدرقية وسرطان المريء وسرطان النخاع الشوكي، كذلك حرموا هم وعائلتهم من الحصول على الدعم الذي يحتاجونه.

لإثبات حالة زوجها، توجهت زوجته الى وزارة شؤون المحاربين القدامى. أمضت عمتي ساعات طوال في المكتبة تقرأ مقالات علمية حول الاشعاع المتأين في المجال الجوي (حصلت على الكثير من هذه المقالات مترجمة عن اللغة اليابانية) كما مضت تبحث في أرشيف صحف نيفادا القديمة وتستشير الأطباء. تعرضت للصد عدة مرات لكن في النهاية وبعد سبع سنوات خضعت الوزارة، وأكدت ان حالة ريتشارد كانت "على الأرجح" بسبب تعرضه للانفجار الذري. هذا الاعتراف جعلها تحصل على تعويض متواضع.

الآن، عدد من حالات المحاربين القدامى "مبنية على الافتراض"، ما يعني ان من المفترض ان حالاتهم المرضية كانت نتيجة خدمتهم العسكرية. لكن لا سبيل الى معرفة عدد الاشخاص الذين عانوا أو ماتوا قبل ان يجري تبني هذه السياسة أو ما هي الحالات الأخرى التي كانت أيضا نتيجة الانفجار- أو عدد العائلات التي لم تستطع ان تتولى على عاتقها الابحاث التي عملت عليها عمتي أو المواظبة على ذلك بالرغم من العديد من العقبات.

عدد المحاربين القدامى الذين تعرضوا للانفجار في تضاؤل، لكن هذه الاسئلة تبقى ملحة طالما ان الاشعاع سيمتد الى اطفالهم واحفادهم.

تعرض فلم "أوبنهايمر" الى النقد لعدم إظهاره الدمار الذي لحق بمدينتي هيروشيما وناغازاكي، وحسنا فعل على ما اعتقد. قد يكون مهينا او حتى عبثيا التقليل من حجم تلك المعاناة وعرضها كحبكة ثانوية في فلم عن سيرة حياة رجل عظيم، في فلم هو في النهاية ترفيهيا خياليا (بمعنى ليس وثائقيا) مع انه يستند الى حقائق.

بالنسبة لتأثير القنبلة على اجسام الأمريكيين، فان منظر هؤلاء العلماء الذين يفتقرون الى الحماية هو الأقرب لهذه المسألة. يدور المشهد كمجاز يظهر كم كان البرنامج الذري متفائلا على نحو ساذج، وكم كانت الأمة غير متأهلة، أو حتى العالم، للرعب الذي ستطلقه القنبلة. عقب الانفجار قال أوبنهايمر للعالم تيلر "عندما تستخدم الحرب النووية فربما كل حرب ستكون غير قابلة للتصور". وأظن انه على نحو غير قابل للتصور هي فكرة ان الولايات المتحدة ستقوم عن عمد بتعريض رجال الخدمة العسكرية للتأثيرات الضارة للقنبلة.

لو كان فلم "أوبنهايمر" فلما تقليديا أكثر فان استسلام اليابان سيكون مشهد الذروة في الختام. لكن الفلم يستمر لساعة أخرى موجها جل اهتمامه الى معاناة اوبنهايمر في الحصول على رخصته الأمنية.

من الممكن مغادرة دار السينما بانطباع، على الأقل في الولايات المتحدة، بأن الضحية الرئيسية للقنبلة هي مستقبل اوبنهايمر المهني. بالنسبة لعمي فان نهايته جاءت لاحقا. وبالنسبة لرجال الخدمة العسكرية الذين تعرضوا للاشعاع أو عائلاتهم- أو للأهالي الذيم كانوا يقطنون بالقرب من مواقع الاختبار مثل أولئك في نيفادا وجزر مارشال، وبالطبع للبشر في اليابان- فقد تكون نهايتهم في المستقبل.

الفلم الذي تم الاحتفاء به في الاوسكار يخبرنا قصة محددة واحدة، لكن حياة عدد لايحصى من البشر مرتبطة بذلك اليوم أيضا. بطريقة أو بأخرى لم يخرج أحد سالما. نحن نعيش في مهب رياح ذلك الانفجار الأول الخطير.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. نمير الصيدلي

    من فضلك إدراج اسم كاتب المقالة الأصلي في مدونتك للأمانة العلمية.

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

أفضل عشرة أفلام هروب من السجن

النجم غالب جواد لـ (المدى) : الست وهيبة جعلتني حذراً باختياراتي

أفضل عشرة أفلام هروب من السجن

معاهد متخصصة فـي بغداد تستقبل عشرات الطامحين لتعلم اللغة

متى تخاف المرأة من الرجل؟

مقالات ذات صلة

حين تتستر الإيدلوجيا الثورية بقبعة راعي البقر!
سينما

حين تتستر الإيدلوجيا الثورية بقبعة راعي البقر!

يوسف أبو الفوزصدر للكاتب الروائي السوري، المبدع حنا مينا (1924- 2018)، الذي يعتبر كاتب الكفاح والتفاؤل الانسانيين، في بيروت، عن دار الآداب للنشر والتوزيع، عام 1978، كتاب بعنوان (ناظم حكمت: السجن… المرأة.. الحياة)، يورد...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram