اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > السردية العربية.. رؤية بانورامية

السردية العربية.. رؤية بانورامية

نشر في: 30 مارس, 2024: 08:55 م

د. نادية هناوي

الواقعية مذهب أدبي لا نهاية محددة للتنظير فيه، فالواقعية هي اليوم وغداً كما يقول بوريس بورسوف. وسبب هذه الدوامية هي قابليتها على التطور الفني؛ فهي بالنسبة إلى الفعل السردي أسلوب في تمثيل الواقع مهما كانت صور هذا الواقع غريبة، ومتغيراته معقدة.

وقد عَرف العصر الحديث صورا مختلفة من الواقعية، لكن أيا من تلك الصور لم تقدر أن تضع للواقعية أوزارها التي فيها غاية المطلب ومنتهاه في أدبيات عملها وتنظيرها لما به تدعي أنها وصلت إلى خط نهائي لا يعيدها إلى خط الشروع الأول. إذ ليس بمقدور أية صورة واقعية أن تكشف عن كنه الحقيقة الفنية للواقع متجسدة ومحددة بشكل جمالي وموضوعي ثم كيف يمكن لواقعية معينة أن تصور الواقع على حقيقته والواقع نفسه متغير ومتعدد، ومجالاته تتوسع وآفاقه تتنوع ومعها يتنوع الأدب السردي وتتوسع ميادين واقعيته وقد يكون بعضها غير واقعي.

إن السرد ليس مجرد فاعلية فنية بعناصر محددة تنحصر فيها إمكانياته وتتقيد فواعله، بل السرد متسع الفضاءات ومتنوع المساحات بما قبل الواقع وما في الواقع وما بعده. ولا مراء في أن اللاواقعية حاضرة في هذه الاتساعات والتنويعات لكن ليس بصورة غرائبية أو سحرية أو عجيبة فهذه كلها لا تصنع اللاواقعية بسبب مما تتطلبه من إدامة قولية استعارية فيها تغيب الاحتمالية لكن المنطقية متحصلة بما يؤديه القارئ من دور في تأويل الأقوال فتتحول لا عقلانية الواقع الموضوعي إلى واقعية عقلانية.

ولقد وظفت السرديات الكلاسيكية والحداثية أساليب شتى في تمثيل الحياة الواقعية، ومنها توظيف العجيب والغريب الفنتازي بينما تعدت السرديات ما بعد الكلاسيكية هذا العجيب والغريب وصارت تعتمد في تمثيل الحياة على ما هو غير واقعي، متخذة من اللامحاكاة أساساً في "السرد غير الطبيعي" وفيه تكون الخيالية ما بعد حداثية وبها تستعاد خرافية الفكر التي عرفتها مرويات التراث السردي العالمي عامة والتراث السردي العربي خاصة.

وما من مفارقة في أن تكون للاواقعية أهميتها عند منظري علم السرد غير الطبيعي، باحثين عن تطبيقاتها في كلاسيكيات السرد الغربي من العصور الوسطى وعصر النهضة حتى العصر الحديث. وهم اليوم يسعون في دراسة كثير من السرديات -التي فيها اللاواقعية موضع تجريب - إلى بلوغ مزيد من التحصيلات في السرد غير الطبيعي. وإذ لم يقف أي ناقد أو منظر منهم عند سردنا القديم فلأنه لا يعلم ما في هذا السرد من غنى، يضيف إلى تنظيراتهم الكثير وربما يعزز النظرية ويحقق الأقلمة بين سرديات الشرق القديم عموما والعربية القروسطية تحديدا.

ولعل بيروقراطية النقد العربي بمفاهيمه القارة واستشراقية النظرة الغربية وأحادية اتباع تقاليدها، قد أدت إلى أن يتبنى الناقد العربي كثيراً من المذاهب والتيارات والمنظورات الجمالية لمفكرين غربيين انطلقوا في التنظير للواقعية النقدية والاشتراكية والسحرية والجديدة وغيرها من حواضن فلسفية ومنظومات ايديولوجية كبرى أهمها وأرسخها الفلسفة الماركسية التي شاعت أفكارها في البلاد العربية منذ منتصف القرن العشرين. هذا إلى جانب ما تبناه الأدباء العرب المعاصرون من صور الواقعية وما جربوه منها حتى ترسخت أساسات الواقعية في قصصهم ورواياتهم. وبدا أغلب الساردين العرب منتمين وملتزمين بمبادئ وايديولوجيات يمينية ويسارية ذات تطلعات اجتماعية واقتصادية وثورية لصيقة بالواقع ومجريات متغيراته آنية الحصول أو بعيدة المدى.

وإذا كان أكثر الباحثين يقولون بأن ما وصل من السرد القديم يعود زمنه إلى عصر ما قبل الإسلام وهو عندهم في الغالب مشكوك فيه ومنحول، فإن في ما وصل إلينا من مرويات تراثية بدءا من عصر التدوين في القرنين الأول والثاني للهجرة حتى العصور الوسطى، وما فيها من تقاليد فنية يدلل على أن هناك تاريخا طويلا من الممارسة السردية سابقة لعصر ما قبل الاسلام بزمن طويل، وكانت سببا في استقرار صور المرويات الجاهلية والاسلامية على اختلاف صنوفها وتنوع طرق كتابتها.

ومن أهم تلك التقاليد هي اللاواقعية التي اعتاد العرب استعمالها في كتاباتهم السردية وتواضعوا على صيغ بعينها. وهي تتوزع بين الأخبار والحكايات والمقامات والقصص والنوادر والرحلات والمنامات والسير فضلا عن النصوص التي هي غير أدبية في علوم التاريخ والفلسفة واللغة والفقه وفيها نلمس توظيفات سردية تتباين أبعادها وتتعدد. وغدت اللاواقعية تقليداً مهماً وواضحاً في مصنفات العصر الوسيط وما بعده، وفيها اتبع الكتّاب التقاليد الفنية العربية من دون أدنى ارتياب أو استغراب مما في لا واقعيتها من اللاعقلانية.

وبسبب ذلك كانت تصورات النقاد القدماء البلاغية للتخييل لا تخرج عن كونه مجازات واستعارات تجعل الاعتياد طبيعيا على اللاواقعية نظرا وإجراء وكأن التخييل هو الواقعية. بمعنى أن التخييل هو الأداة التي بها يصور الحكاء الواقع سواء في الحكايات الأدبية أو في المرويات التاريخية. وصحيح أن التخييل جزء من نظرية أكبر هي المحاكاة بمعناها الأفلاطوني والأرسطي، بيد أن الناقد القديم أعطى للتخييل اهتماماً كبيراً فكانت اللاواقعية تقليدا راسخا لا في السرد، بل في الشعر ونقدهما أيضا.

وهم إذ استعلموا كلمة النثر أو المنثور أو المرسل والروي أو القص ولم يستعملوا السرد فليس لأنهم لم يعرفوا الكلمة، فلقد كانت متداولة ووردت في القرآن الكريم ولها في المعاجم العربية معان ودلالات كثيرة، وإنما السبب يعود إلى أن التقاليد التي احتكم إليها الناقد في تحليل الشعر على تعدد أغراضه، تناظر تلك التقاليد التي خضع لها في تحليل ما هو سردي لاسيما السرديات التي كانت قد استقرت أنواعها وقت ذاك. فغدت من ثم تخييلية الجملة الحكائية كالجملة الشعرية بكل متعلقاتها التعبيرية كالاستعارة والنسج والصناعة والصياغة والنظم والمطابقة والتكرار والتجانس والبيان..الخ.

ولا يعني ذلك أن ممارسة الشعر كانت مثل ممارسة الحكي أو القص، بل الأولى مقدمة على الثانية بمحدودية مجالاتها المقيدة بالوزن والقافية وبفاعلها المعرف بأنه شاعر أو ناظم بينما ظلت ممارسة الحكي متسعة المجالات ومتنوعة إلى درجة أن ممارسها لم يستقر تعريفه أو توصيفه على اسم محدد، فسُمي بالناثر والكاتب والإخباري والحكاء والقاص والمؤلف وغيرها.

وهذا أمر ما كان له أن يكون ويتحقق لولا وجود جمهور يشارك الحكاء أو القاص عالمه يستقبل أقواله، ويؤول خطابية هذه الأقوال التي كانت محفزة إياه على التلقي والتفكير بواقعية ومنطقية في تمثيلات ما هو غير واقعي. ومهما كانت اللاواقعية مهيمنة على الأحداث السردية، توجه البطل والشخصيات الأخرى وتؤثر في مصائرهم، فإن الجمهور يتقبلها بوصفها أقوالا يسردها حكّاء ولا مجال للشك في ما يقوله. لأن الحكاء مثل الشاعر عليه أن يقول ما هو بلاغي أو مجازي ينزاح عن الدوال المعتادة وما على السامع سوى أن يؤول ذلك تأويلا منطقيا يوصله إلى المغزى الواقعي بمدلولات ممكنة تتشكل من جراء استقباله لتلك الاستعارات والمجازات.

ولقد استمر السرد القديم في السير على اللاواقعية في العصور اللاحقة فاستحضر الكتّاب كثيرا من أساليبها في مصنفاتهم. واستعادها كتّاب السرد في عصر النهضة الأدبية بيد أنهم تأثروا أيضا ببواكير ما ترجم من قصص وروايات روسية وفرنسية وانجليزية، وعمد أغلبهم إلى مفارقة اللاواقعية وصاروا يتبعون الواقعية الغربية بوصفها تقليدا سرديا أولا ثم بوصفها مذهبا في النقد له أهميته آخرا. فتراجع تقليد اللاواقعية في السرد العربي الحديث وقلَّ تأثير السرد القديم في القصاصين والروائيين المعاصرين لكنه ما انتهى أو تلاشى، بل ظل يحضر في كتابات بعض الكتّاب العرب لاسيما أولئك الذين استوعبوا ما في تراثنا السردي من ثراء فني وغنى موضوعي.

ولا إنكار لأهمية السرد الواقعي والدور الطليعي الذي لعبته الأعمال السردية والشعرية وهي تتبنى النظر العقلاني في تصوير الواقع العربي المرير. فكان المجال كبيرا لأن يتبنى الكتّاب العرب تقاليد الواقعية الغربية بينما انحسرت لا واقعية السرد العربي القديم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram