لطفية الدليمي
في المشهد الختامي للفلم السينمائي Saving Private Ryan)) ظهر الجندي ريان وهو ينتحب بقوة سائلاً زوجته: عزيزتي، هل عشتُ حياة تستحقُّ تضحية هؤلاء الجنود الخمسة الشجعان من أجلي؟ هل كنتُ زوجاً صالحاً؟ هل ترينني مستحقاً للحياة التي منحها هؤلاء لي؟
لم يفوّت الفرصة في إظهار الوطنية الامريكية بشكل جذاب، ويبدو أنّ رسالة خفية من البنتاغون أو دوائر صنع السياسات الامريكية تؤكّد على تعزيز مفهوم الوطنية Patriotism وبخاصة في أعقاب واقعة 11 سبتمبر 2001؛ فاستغلّ ستيفن سبيلبرغ مخرج الفلم هذه البرهة من التساؤل الفلسفي للجندي ريان فأظهره يؤدي التحية العسكرية المنضبطة للعلم الامريكي الذي يواجه شمس (الحرية)، وفي الوقت ذاته راحت الدموع تنسابُ من مآقي ريان.
كلّنا نسخة من ريان. كلّنا سنتساءل يوماً ما هذا التساؤل: هل عشتُ الحياة التي أستحق؟ هل كان بمستطاعي عيشُ حياة أفضل ولم أفعل؟ هل سأغادرُ هذه الحياة وأنا في خصومة مع نفسي ومع البشر جميعاً أم سأعتبرُ رحيلي واقعة طبيعية في حياة محكومة بقوانين لا تحيد؟ هل نحن متصالحون مع وضعنا أم تملأ المرارة أرواحنا؟
سأقول منذ البدء: لا أحد يعتقدُ أنّه عاش الحياة المثالية التي يتوقّعها. الحياة المثالية مفهوم ذهني نحن نصنعه ونحنُ نطيح به. لن يقتنع حامل جائزة نوبل بأنّه عاش حياة مثالية، ومثله سيفعل يائع الخضراوات في علاوي جميلة أو سائق الكيا في أحد خطوط الاجرة أو أستاذ مدرسة إبتدائية أو ثانوية أو طبيب أو مهندس،،،،. السبب يعود لمحدودية وجودية تمثلُ أحد معالم وجودنا البشري. يمكنُ لقرار بسيط أو طارئ أو تصادفي او أتخِذ في لحظة غير محسوبة بحسابات نظنها عقلانية أن يغيّر كل منها مسار حياتنا كلياً. لو قرأنا السير الذاتية والمذكرات لأناس مميزين في حقولهم المعرفية سنعثر على الكثير من هذه الوقائع الصدفوية التي ستقلب كلّ قناعاتنا بمفهوم الحتمية والارادة الحرّة. حتى عندما نواجه حظاً طيباً سنظلُّ على الاغلب نفكّرُ فيما مضى وهل فاتتنا فيه صدفة طيبة أضعناها بقصر نظر أو تقاعس عن الفعل اللحظي المناسب. في المقابل ثمّة مصادفات أودت بحياة أصحابها في حكايات هي أقرب للخيال.
لو تركنا السؤال الفلسفي الخاص بلانهائية المسارات التي يمكن أن تتخذها حياتُنا فيمكن من الناحية النفسية تصنيف الناس في صنفين رئيسيين من حيث رؤيتهم لفكرة مفارقتهم الحياة:
الاوّل: هو ذلك الصنف مفرط الحسية، أبيقوري من غير لجام، يرى الحياة ميدان متعٍ لا تنتهي؛ لذا ستتآكله الحسرات كلّما تراءى لناظريْه مشهد مغادرته للحياة وتركه لكلّ هذه المتع لآخرين سواه. يفكّرُ في لقمة إضافية سيأكلها سواه، وفي ملبس أنيق سيرتديه سواه، وفي سيارة أكثر حداثة سيقودها سواه، وفي منزل أفخم سيسكنه سواه. هذا نمط البشر الذين لا يشبعون حتى لو عاشوا ألف عام. مُعذّبون هؤلاء. بدل أن يستمتعوا بلقمة طيبة في يومهم يتأسّفون على لقمة ستفوتهم في طبق سيوضع على مائدة انسان ربما لم يولد بعدُ.
الثاني: هو صنفٌ من البشر الذين يتأسّفون على إمكاناتهم الفكرية أو الجسدية الخبيئة التي يعتقدون أنها لم تُستثمَرْ بالشكل اللازم. سيتأسّفون كثيراً وسيتعذّبون كثيراً كلّما خطرت ببالهم خاطرة عن القدرات التي ستغادرُ رفقة أجسادهم هذه الحياة. يخبرنا واقع الحال أنّ أعداد هؤلاء أقلّ بكثير من الصنف الاوّل، وهم أكثر رفعة أخلاقية وسمواً سلوكياً منهم. المواهب أو القدرات(سمّها ما تشاء) ليست منحة مجانية نتبرّك بها. إنها سيف حاد قد يقطع نياط قلوبنا عندما لا تجد طريقها الطبيعي في التفتّح والنماء. حينها ستصبحُ مثل سمّ زعاف يميتُ حياتنا ويشوّه طعم كلّ اللذائذ الطيبة التي تزخر بها الحياة.
سيفكّرُ قارئي كثيراً هل هو من الصنف الاول أم الثاني. هذا سلوك طبيعي مطلوب ومرغوب فيه. لكن قبل هذا أدعوه ليفكّر في سؤال يتقدّم على مسألة التصنيف النفسي السابقة: هل كنتُ عبئاً على هذه الارض؟ هل نشرتُ المحبة فيها أم كنتً عنواناً للكراهية؟ هل ثمّة خصيصة طيبة أو مَعْلمٌ جمالي أو أثر فكري ساهمتُ فيه ولو بقدر ضئيل؟ هل كنتُ مصدر إيذاء للآخرين بأشكال ربما لا يتوقعونها أم كنتُ مصدر خير ومساعدة بالقدر الذي أستطيع؟
الاسئلة الاخيرة كما أرى أهمّ بكثير وأكثر قيمة جوهرية وعملية من التفكّر في إنسان يسحقه فواتُ اللذائذ الطيبة وتركها لآخرين، أو في إنسان سيأخذ مواهبة الثمينة معه إلى العالم الآخر.
جميع التعليقات 1
سلمان عبدالرزاق
العفو، الفيلم انتج سنة 1998 و ليس 1988 كما كتبت سابقا، لكن الملاحظة تبقى صحيحة.