ياسين طه حافظ
وانت تدخل بلداً آخراً، تفهم لغته وتتكلم بها، تبقى نسبة من الغربة بينكما. ليست هي غربة مكان وعائلة وطباع ناس. فانت تفهم ما يقولون لكن بمذاق، ما حملْ كلماتك، ما ورثت وما اكتسبت. وهذه ليست تماماً ما يحملونها ويقولون عنها. ما تفهمه وتشعر به ليسا ما يفهمونه ويشعرون به، قريب منه نعم، ولكنه يختلف قليلاً او كثيراً. ليس هناك ما يؤكد التشابه التام بين ما عندك وما عند مقابلك او "نظيرك" انت من تاريخ وبيئة وإرث ثقافي وهو من ثلاثة اخرى.
فاستيعابك واستجابتك غير ادراكه واستجابته. هذا اذا تشابهت المفردات فكيف اذا اختلفت؟ هذه الفاصلة بين الاثنين غير محسوسة، لا ظاهرة مرئية ولكنها تؤثر، وقد تتضح، في مضمون الشخصين، في نوع وعمق او مدى المشاعر، ومن الاصداء النفسية والفهم وردود الفعل. ثمة فهم عام مشترك. ولكنه ضبابي، غير آتٍ بتمام الحقيقة. الفهم العام المتكامل لم يتحقق. الناقص، التقريبي، قد يكون هو المتوافر. المتكامل حصة للشخص الثالث الافتراضي والذي هو لا انت ولا انا!
خطرت لي هذه الافكار وانا انوي الكلام عن الترجمة، والترجمة الثقافية لا الترجمات التجارية او العسكرية. هاتان تقعان غالباً ضمن الترجمة الفورية، التي تؤكد على الرقم والمعلومة، او ما نسميه الخبر. وتعتمد على حدّية المضمون لا أيحاءاته.
هنا اردت ان اتجاوز التاويل الادبي حيث الحراك على مداليل وافاق النص وحمولته. فصار لزاماً ان يكون الكلام حصراً عن الترجمة الادبية وهي تعنى اساساً بنقل المضمون الثقافي تراثاً او ابداعاً او فكراً نقدياً. ايضا عما هو خارج السرد الفني والشعر، كالسيرة وادب الرحلات او ما يسمى بـ ادب السفر. صار الحديث عن الترجمة بحكم الاهتمام بالمضمون وفنه وايحاءاته.
لنتجاوز ما هو شرط اول للترجمة، او شروط اولى ضمنها الكفاءة في اللغتين، وهو اول ما يرد في الكلام عن الترجمة. لنبق مع حقيقة ان الثقافة المتخصصة والثقافة العامة والارث الاجتماعي وراء النص الاصل. والثقافة الخاصة والثقافة الاجتماعية والتراث الحي الفاعل وراء مترجمهِ، فضلاً عن البيئة الحضارية ومستواها هناك مع كاتب النص، وهنا مع مترجمه. قد تبدو المطالبة بتساو صعبة الاستجابة. خلاصة كلامنا وايجازه، اننا نقرأ ما جاءنا من لغة اخرى اي من ثقافة اخرى. وما وصلنا منه هو القدر الذي اسعفنا به تصورنا وفهمنا وذائقتنا وتاريخنا الثقافي نحن في لغتنا. وهو غير التاريخ الثقافي لكاتب النص. ذلك رسمناه بأثر مما رأينا بابصارنا وفهمنا، بقدراتنا العقلية وسِمَتها ومستوى ونوع تحضّرنا وبايحاءات لغتنا. لذلك دائماً ما تكون نِسَبُ التقارب او التماثل بين النصين، الاصل والمترجمَ، نسباً متفاوتة. وعلى النطاق الفردي، هذا التفاوت يظل قائماً حتى اذا قرأنا النص بلغته، فكل يستوعب او يغفل بعضاً مما يقرأ.
بالنسبة للترجمة، وهي موضوعنا الاساس، كل تشابه او تماثل تام هو تشابه او تكامل افتراضي. النص المكتوب ليس هو تماماً الذي نقرؤه وليس هو تماماً الذي نترجمه. المترجم قام بتأويل من نوع ما للنص وتأويل النص يؤدي حتماً الى تأويل الثقافة التي وراءه – او التي انتجته، لانه بعضٌ منها. تبقى دائماً مسافة بين ادب هذا المجتمع وادب ذلك المجتمع: نعم، كلما توطّنا واكتسبنا عمراً في البيئة وثقافتها، تضاءلت العزلة وقصرت المسافة الفاصلة واقتربنا اكثر. قد يكون تماثل هذين مطلباً مثالياً. ولكن علينا الاقرار بما يجب ثم الرضا، كما يقال، بما يتيسر او باقصى الممكن.
المشكلة التي تستوجب النظر في ايجاد حل لها، هي اننا لا ننقل الى لغتنا النص المكتوب تماماً. نحن ننقل ما نتصوره، ما نفهمه، ما نلمّ به وما اوحاه لنا. ونسبة ذلك ونوعه يعتمدان على " مُسْتقبِلاتنا". هذا يعني اننا، نحن من يقدر معنى وحدود او كم المعنى والحس الفني والجمالية التي يتمتع بها النص الاصل. فنحن في الحقيقة نمارس فرضَ نوعٍ من الجمالية كما نوعٍ من التأويل. نحن نؤول جملة، فقرة وفصلاً وحتى يبكتمل النص او الكتاب. خلال هذا وعبره نحن اوّلنا ثقافة الآخر، مجتمعاً، أفهاماً وتصورات. تلك بيئة النص ومكوناته وتلك وراءه، ثقافة كاتبهِ. والتي هي ليست ثقافة المترجم مجتمعاً وافهاماً وتصورات. ونتيجة لذلك فبيئة النص المترجم ليست هي تماماً بيئة النص الذي ترجمناه. وبأيجاز، نحن أوّلنا النص. إذاً، وبالضرورة أولنا الثقافة التي وراءه. أوّلناها بثقافتنا وبطبيعة لغتنا وايحاءاتها. وبهذا المسار التأويلي نحن نؤول شخصيات الرواية ودوافعها ومعاني اقوالها. وكذا القصيدة المترجمة هي مقطوعة مؤولة بثقافة المترجم من ثقافة اخرى.
علينا تقبل حقيقة ان: حتى الان لم تتحقق عولمهُ الفهم والادراك، والثقافات ما تزال مختلفة ومتفاوتة المستويات. ولم تتهيأ بوتقة تجمعها على مزاج او على فهم واحد. الامل فقط بتقارب مستويات الثقافات ومستويات التحضر الاجتماعي والانساني. وهذا ما لم يتمّ حتى الآن.
لكن بعضاً من المشتركات، مادية ومعنوية، تزداد حضوراً يوماً بعد يوم، والبشرية سائرة الى التقارب والفهم المشترك، وربما اللغة المشتركة!