TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: الطائر العجيب

باليت المدى: الطائر العجيب

نشر في: 31 مارس, 2024: 10:21 م

 ستار كاووش

الجمال لا تحده حدود ولا يقف بوجهه عائق. فلا آثار الزمن التي تتركها الأيام على ملامحنا ولا تعاقب سنوات العمر بإمكانها منعنا من إبتكار اللحظات التي نراها تناسبنا وتناسب مزاجنا وأرواحنا التواقة نحو كل ما هو مميز ورائق وفريد. فإن كان بوسعنا نفض الغبار عن سنوات العمر فلنفعل ذلك الآن وليس غداً،

فكل يوم هو يوم جديد وكل لحظة نعيشها لا يمكن أن تعود أبداً. وبدلاً من ناسٍ كثيرين تراجعوا بهدوء خلف الصفوف، معتقدين بأن وقتهم قد فات، هناك الكثير أيضاً ممن مضوا في طرقهم الخاصة ولم يتوقفوا عند حد معين، وكإنهم لا يعرفون البداية ولا النهاية، لا يقيسون خطوتهم بعدد الأيام ولا يعرفون طول الطريق. وفي مقدمة هؤلاء تقف مصممة الأزياء وإيقونة الموضة إيريس أبفل التي عاشت أكثر من مائة سنة، شغلتها كلها بصناعة أشياء وتفاصيل خاصة وجميلة ومبتكرة، وكانت الجرأة هي العتلة التي حركت طموحاتها، وفرديتها العالية هي التي كانت السبب في بقائها سنوات طويلة تتحسس تحت الأضواء عطر اللحظة وبريق التصاميم المبتكرة وملمس الأقمشة النادرة، لا يقف أمام طموحاتها شيء أبداً ولم تُعكر مزاجها أية لحظة حتى لو كانت عابرة. إيريس التي رحلت في هذا الشهر بعمر 103 سنة، عاشت حياتها كما تُحب وتريد وتتمنى، فعدد السنين كان بالنسبة لهذه الإيقونة هو نوع من السراب الذي يتراءى أمام المترددين المحاطين بشكوك التحفظات وأسيجة اليأس. وهكذا خلال اكثر من مائة سنة ظهرت إيريس بأناقتها الشهيرة وصورتها التي صارت أحد رموز القرن العشرين والواحد والعشرين.

كلنا سنمضي بكل الأحوال، وهناك من سيترك خلفه إرثاً جميلاً وباهراً، فيما سيُبقي آخر وراءه صورة خافتة لا يمكن رؤيتها. وعلينا أن نختار نوع الضوء الذي ينير حياتنا، وكل واحد بطريقته ومجال عمله واهتمامه. رحلت إيرس بعد أكثر من مائة سنة عاشتها بين الأضواء والكاميرات والافلام والاعلانات، لم يمر عليها يوم، إلا وهي تُشرق بمظهر مليء بالألوان البهيجة الناصعة، تحيطها الزخارف والاكسسوارات وتتكدس على رقبتها العديد من القلائد الملونة، لا تكف عن الإبتسام بوجه الكاميرات، وكأنها تضحك في سرها من الكثير من الناس الذين ربما يرونها غريبة الأطوار. هذه الجدة التي تتسابق بين فتيات صغيرات لتكون نجمة غلاف هنا وامرأة إعلان هناك، لا تعرف سوى ان اللحظات الملونة يجب أن تبقى ملونة الى الأبد.

هكذا رحلت إيريس أبفيل (1921-2024) هذا الشهر كسيدة للجمال وأيقونة للأزياء، حيث كان آخر عقد أزياء وقعته وهي بعمر السابعة والتسعين، هي التي تدرجت بعملها على مراحل عديدة، حيث درست تاريخ الفن بجامعة نيويورك، ثم إلتحقت بمدرسة الفنون بجامعة ويسكونسن، لتبدأ أولاً بتصميم أثاث المنازل، كذلك عملت في الاعلانات وقضت بعض الوقت كمساعدة لبعض الرسامين، وهكذا تدرجت في عملها حتى صارت ايقونة الموضة، حيث مضت في الطريق الذي رسمته لنفسها. وقد استضافت متاحف عديدة حول العالم مجاميعها الخاصة من الازياء الغريبة والقلائد والتصاميم المبتكرة، حيث أطلق عليها متحف متروبوليتان لقد (الطائر العجيب) بعد أحد معارضها الناجحة. وقد صُوِّرَتْ عنها الكثير من الافلام الوثائقية والاشرطة والإعلانات التلفزيونية وأعطت الكثير من المحاضرات لطلاب التصميم ومصممي الأزياء، وفوق هذا يتابعها أكثر من مليون متابع على انستغرام، كذلك صنعت لها شركة باربي دمية إيقونية صاحَبَتْ أحد الكتب التي صدرت عنها. هكذا ترسخت صورتها الايقونية بملابسها الملونة الفضفاضة ونظارتها اللكبيرة اللامعة مع أحمر الشفاه الفاقع والأظافر البراقة وأساورها العديدة وقلائدها الكبيرة، ساخرة من الزمن ومتتبعَة مزاجها الخاص والفريد.

الجرأة هي إحدى سمات إيريس التي لم تهتم بالتقاليد الثابتة، فهي الوحيدة التي يمكننا رؤية خمس قلائد كبيرة تتكدس دفعة واحدة على صدرها. وبقيت إيريس طوال حياتها مواضبة على هوايتها في زيارة بلدان العالم المختلفة لشراء الأقمشة، وفوق هذا هي لا تتردد بالدخول الى متاجر الأشياء المستعملة والقديمة، بحثاً عن أشياء فريدة تُدخلها ضمن تصاميمها، حيث تعتقد بأن في الكثير من زوايا هذا العالم توجد أشياء تبدو رخيصة لكنها ثمينة بما تعكسه من تأثير جمالي. فيمكن للقلائد أن تكون قليلة الثمن لكنها مشعة كالذهب. رحلت إيريس وتركت عالمها الذي صنعته على مدار قرن من الزمان، وستبقى صورتها دائماً كرمز للتحرر والغرابة والجرأة ولكل ما هو غير سائد.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: في محبة فيروز

 علي حسين اسمحوا لي اليوم أن أترك هموم بلاد الرافدين التي تعيش مرحلة انتصار محمود المشهداني وعودته سالما غانما الى كرسي رئاسة البرلمان لكي يبدا تطبيق نظريته في " التفليش " ، وأخصص...
علي حسين

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

 لطفية الدليمي العلمُ منطقة اشتغال مليئة بالسحر؛ لكن أيُّ سحر هذا؟ هو سحرٌ متسربلٌ بكناية إستعارية أو مجازية. نقول مثلاً عن قطعة بديعة من الكتابة البليغة (إنّها السحر الحلال). هكذا هو الأمر مع...
لطفية الدليمي

قناطر: أثرُ الطبيعة في حياة وشعر الخَصيبيِّين*

طالب عبد العزيز أنا مخلوق يحبُّ المطر بكل ما فيه، وأعشق الطبيعة حدَّ الجنون، لذا كانت الآلهةُ قد ترفقت بي يوم التاسع عشر من تشرين الثاني، لتكون مناسبة كتابة الورقة هذه هي الاجمل. أكتب...
طالب عبد العزيز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

إياد العنبر لم تتفق الطبقة الحاكمة مع الجمهور إلا بوجود خلل في نظام الحكم السياسي بالعراق الذي تشكل بعد 2003. لكن هذا الاتفاق لا يصمد كثيرا أمام التفاصيل، فالجمهور ينتقد السياسيين والأحزاب والانتخابات والبرلمان...
اياد العنبر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram