علي حسين
في الثامنة عشرة من عمره يقرأ اللبناني جورج جرداق كتاب نهج البلاغة، الذي أهداه إليه أخوه الأكبر، فيسحره الكتاب أسلوباً ومعنى ومواقف، فيقرر، وهو المسيحي القادم من إحدى قرى الجنوب، أن يكتب أضخم موسوعة عن الإمام علي بن أبي طالب، طُبعت منها عشرات الطبعات.
يكتب جورج جرداق عن الأسباب التي دفعته إلى كتابة موسوعته هذه قائلاً: بعد أن ضاقت بنا سُبل التقدم والرفاهية والاستقرار، ويفتك بعضنا بالآخر، والناس أشبه بقطعان أغنام لهذا الحاكم أو ذاك، ارتأيت أن أكتب شيئاً عن ذلك، وطبعاً كنت قد قرأت علياً "ع" وعشته وتأثرت به، فوجدته صاحب ثورة إنسانية واجتماعية وفكرية وثقافية، فكان لزاماً عليّ أن أسلـِّط الضوء على هذا الفكر النقي الذي أنار لي الدرب والطريق.."
في كل مرة أقرأ في أحد أجزاء موسوعة جورج جرداق ، أقول لنفسي هل تساءل أحد من ساستنا “المجاهدين” كيف مارس علي "ع" السلطة في أعوام خلافته الأربعة؟ لم يجد الإمام في الخلافة حقاً استثنائياً في المال والأرض، فساوى نفسه مع الجميع، رفض أن يسكن قصر الإمارة، ونزل مستأجراً في منزل يملكه أفقر فقراء الكوفة، سيقولون هذه مثالية مطلقة وسنقول لهم إنها عدل شامل، فالخليفة لم يرضَ أن يسكن القصور فيما رعيته يسكنون بيوتاً من الصفيح.
كان معارضوه يتجاوزون عليه إلى حدّ شتمه فلا يبطش بهم ولا يمنع عنهم المال، لأنه يرى أنّ الخلافَ أمر شخصي بينه وبينهم، وما بيده من حكم ليس سلطة يقاضي بها مخالفيه في الرأي، ولكن يقاضي بها أعداء الناس، فمهمّته إقامة الحق ودفع الباطل. يقول لابن عباس: “هذه النعل أحب إلي من إمارتكم هذه، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً” .
يخصص جورج جرداق أحد أجزاء موسوعته للكتابة عن "علي وسقراط" حيث يناقش أفكار كل منهما، قائلاً: “كلا الرجلين تراث عظيم للإنسانية.” وفي هذا الجزء يورد جرداق مقولة شهيرة لسقراط: “لا علم بلا فضيلة، ولا فضيلة بلا علم، كما أنه لا جهل بلا رذيلة، ولا رذيلة بلا جهل.”
نقرأ في كتب الفلسفة والأدب والروايات وحكايات الشعوب من أجل أن نتعلم ، وفي كل ما قرأته عن الإمام علي “ع”، لم أر إلا حقيقة واحدة، هي أن لا مجال للجهل والانتهازية والتغاضي عن قول كلمة الحق في الدول التي تريد السعادة والكمال لشعوبها .
اليوم نتذكرك يا إمام الحرية، ونحن نرى ساسة يتحدثون ليل نهار عن القيم الدينية، وأخلاق الحاكم، ورضا الله والعباد، ومصطلحات وعبارات ضخمة، لكن أكثرهم يدافعون عن الفساد والمفسدين ، ويؤلبون فئة على أخرى، ويقيمون الدنيا ويقعدونها من أجل الحفاظ على كراسيهم.