طالب عبد العزيز
لم تستهلك جولاتُ التراخيص النفطية المعروفة بتفاصيلها المشبوهة الكثير من الوقت، لكي تصبح أمراً واقعاً، ذلك لأنَّ الارادة العليا(الامريكية) كانت صاحبة المشيئة، فشرّعت لها جملة قوانين، التي أقل ما يقال عنها بأنها مجحفة، بحقِّ أجيال العراقيين.
فدخلت كبرى الشركات، وباشرت أعمالها، ونقّبت، وحفرت، واستصلحت، وفي بحر شهور قليلة حملت اساطيلُ النقل نفطنا الى اسواق العالم، لكنَّ العراقيين، أصحاب المشاريع الانتاجية الصغيرة والكبيرة نسبيّاً مازالوا يواجهون عشرات المعوقات والمصدّات التشريعية والقانونية لا لشيء إلا لأنَّ الارادة الوطنية هامدة، معطلة، غير معنية بالاقتصاد الوطني، هذا إذا أحسنا الظن بها، أما الحقائق الكبيرة، التي تقف وراء ذلك، والتي أعلن عنها اكثرُ من مسؤول وبرلماني ووزير فهي الكارثة التي لا يجهلها أحدٌ.
يشتري مرتضى كامل مفتن مدير مؤسسة محلية، غير ربحية، تعنى باحياء التراث العراقي قطعة أرض زراعية في ابي الخصيب فيها نخل وبيت قديم، فيأخذ بالبحث عن الاصناف النادرة من فسائل النخيل، ثم يغرسها، فتثمر، ويحوّل البيت ذاك الى متحف، يضع فيه مئات المقتنيات التي جمعها، بجهده الشخصي، واشتراها من ماله الخاص، فيصبح المكان محجَّاً للباحثين والسائحين ومحبي الأثر الشعبي والفلكلوري، ولأنه ضمن واقع زراعي، ووسط بساتين النخيل ذهبت إرادته الى استثمار تحصيله العلمي/ بكلوريوس علوم كيمياء فأسس مصنعاً للدبس، وعلى وفق الاشتراطات المطلوبة، من الجهات ذات العلاقة(وزارة الصناعة، التجارة، التنمية الصناعية، دوائر الزراعة وو) ويدخل السوق العراقية بأجمل وأطيب منتج عراقيٍّ بصريٍّ لكنَّ الاوضاع في العراق لا تسير بمشيئة المخلصين دائماً.
ولأمر ما يضطر الى بيع بستانه بنخيله وفسائله واشجاره، والى جمع تحفه ونوادره في كونتينرات مظلمة، مغادراً فردوس أحلامه وطموحاته، ويرحل، فيشرّق ويغرّبُ في جهات الارض، باحثاً عمن يأخذ بيده الى ما يؤمّن له استمرار مشروعه، لكنه لا يجدُ أحداً، فيصدّه الوزيرُ هذا، ويهمل طلبه المديرُ ذاك، وتشيح بوجهها عنه اللجنة هذه والمديرية تلك، وبدلاً عن الاخذ بيده الى إيجاد مكان مناسب، قريب من المدينة، يقيم عليه مشروعه الثقافي- التجاري سيكون مضطراً مثل بدويٍّ، لم يرَ وجهه أحدٌ، قاصداً الصحراء، في محاولة لترويض نفسه على السكن خارج المدينة، مستأجراً قطعة أرض في رملة نائية، بسفوان، القريبة من حدود الكويت، حيث لا زرع ولا ضرع هناك، فهي مما تمنحه الحكومة للعوام، من مزارعي البصل والثوم والطماطة.. لكنهُ، يقبل تحدي الإهمال والطبيعة وبُعْدَ ووعورةَ الطريق، ليبدأ من جديد.
هل انتهت معاناة مرتضى كامل مفتن؟ لا وبكل تأكيد! لكنه رجل بروح روبنسون كروسو العظيمة يشقُّ الطريق، ويسوّر مزرعته ويحفر بئراً .. وينقل مقتنياته وآلياته الى سفوان، ويعيد تركيب مكائن معمل الدبس، ثم يبني مبنى لمتحفه، فتخرج نوادره من ظلمة الكونتينر، لتعرض بحلة جديدةٍ، فيجدُ نفسه ثانيةً وسط عوالمه التي عشق وأنفق المال من أجلها، ولأنَّ أرضه محاطة بالمئات من مزارع الطماطة، ولأنه يدرك وعن وجع قلب المآسي والخسارات التي تصيب المزارعين سنوياً جراء فتح الحدود وتدني الاسعار فقد كانت فكرة انشاء معمل لصناعة معجون الطعام هي الانسب لديه، فيقيم مصنعه.
لكن، ومنذ ثلاث سنوات والمعوقات تتكالب على مشروعه، فالارضُ الزراعية التي أصبحت له(25 دونم) لا يحقّ له إقامة مشيّد صناعيٍّ أو تجاريٍّ عليها، هي لأغراض الزراعة حسب، لذا توجب عليه أنْ يبحث عن قطعة أرض مجاورة، فيشتريها، ويستحصل الموافقات الحكومية المطلوبة، لكنه يفاجأ بممانعة إحدى الشركات النفطية الاجنبية المالكة للأرض!!!!!! وهنا نعود الى تشريعات جولات التراخيص المشؤومة، التي لم تعد تملك باطن الارض إنما أصبحت تملك الارض ومن عليها.
مثل من أعيته السبل، يكيلُ مرتضى المديحَ لكبار المسؤولين في الحكومة، ولوزارة الصناعة بالذات، ويثني على تعاون كبار موظفيها معه، ويقول واثقاً بانه سيجدُ من ياخذ بيده الى إكمال مشروعه الصناعي – الثقافي، ففيه ما يدعم الاقتصاد الوطني، ويعزز أهمية الاثر الثقافي في نفوسنا. الرجل الذي ارتضى بكل الصعاب تحدياً يقول بأنَّ العراق ما زال بخير.