اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > طه حسين والريادة التنويرية

طه حسين والريادة التنويرية

نشر في: 2 إبريل, 2024: 11:50 م

كه يلان محمد

العودة إلى رموزُ النهضة الثقافية والحديث عن الأدوار الريادية للنخبة التي تكفلت القيام بالوظيفة التنويرية على الصعيد الفكري ليست ضرباً من التعويض المُتخيل للمرحلة الراهنة التي تذوي فيها أصواتُ عقلانية يوماً تلو آخر.

ويأخذُ فيها الاستعراض مكان الفتوحات المُخلخلة للأنساق المتهالكة.بل يجبُ أن يفهمَ ذلك بأنَّه محاولةُ لإعادة ترتيب الأوراق بشأنِ الإشكاليات الحضارية. لاشكَّ إنَّ مايفاقمُ من الأزمة الناجمة من القصور العقلي هو الجمود الماكر الذي يكونُ ظاهره موحياً بالفقزة الحضارية لكن هذا الأمر في الحقيقة ليس إلا نكوصاً وتراجعاً من مكتسبات العصر الليبرالي الذي كان طه حسين أحد أبرز أقطابه.والحال هذه فمن الضروري التأملُ في تجربة روَّاد التيار التنويري ومُعاينة ماتمَّ تحقيقه في تلك الحقبة الواعدة على مستوى النهوض العقلاني وتدشين الاستقلال الفكري في المؤسسات الأكاديمية. قد لايكون في الكلامِ أي مبالغة أو تنطعٍ إذا قلنا بأنَّ صاحب "الأيام" بحيوته الفكرية وارتياده لمناطق كانت بكرة على العقل العربي لايزالُ مصدراً مُلهماً بالقيم الداعمة للانطلاقات التنويرية.هذا ناهيك بأنَّ حياة عميد الأدب العربي بالمنازلات التي اختبرها على الأصعدة كافةً تحفلُ بالمواقف التي تؤكدُ بأنَّه كان شديد المراس في المواجهة. الأمر الذي يوثقه كتابُ "الأيام" غير أنَّ معرفة موقع طه حسين على خارطة الفكر العربي وتجليات ثورته المنهجية لدى الأجيال اللاحقة تتطلبُ متابعة مايرويه من نشأوا على كنف أفكاره الفذة ومواقفه الجريئة،وهذا مايقومُ به الكاتب المصري صبري حافظ في مؤلفه " طه حسين ذكريات شخصية معه"

الأعراف الثقافية

بالطبع أنَّ مايميزُ طه حسين عن أترابه من المثقفين أنَّ العميد لم ينقطع خطه وإلى الآن ما إن يحتدمَ الجدلُ حولَ مقومات النهضة الثقافية وإمكانيات الخروج من منطق الانكفاء العقلي نحو الانفتاح الحضاري حتى تتبين أكثر ضرورة الانطلاق من القواعد التي كان لطه حسين دورُ في إنشائها لعلَّ من أهمها مبدأ استقلال الجامعة والتواصل مع كل ما جادت به الحضارات الأخرى إذ يذكرُ حافظ في إطار مايسرده عن طه حسين بأنَّ الأخير قد نصحه بأهمية التَمَكُن من لغة أجنبية بين أهلها. لاشكَّ إن لكل عصرٍ أعرافاً ثقافية تختمرُ في سياق التحولات التي يشهدها الوعي بالمُعطيات الخارجية ومايتبعُ ذلك من الحراك المعبر عن زمن جديد. ومن الخطأ الاعتقاد بأنَّ الكتاب يكون مصدراً وحيداً للتكوين الثقافي لأنَّ الثقافة تتجلى قبل كل شيء في الأنموذج السائد ماذا تنفع القراءةُ في البيئات الموبوءة بالثقافة الملوثة والداعمة للمُثل الفارغة؟! يبدأُ صبري حافظ بسرد جانب من أجواء بيئته العائلية فكان أبوه موظفاً حكومياً تنقل بين عدة أماكن إلى أن ينتهي به المطاف في مجلس قريته البلدي بشبراخوم يعترفُ الكاتبُ بأن الانتقال إلى القرية كان صادماً بالنسبة إليه وهو قد أمضى تسع سنوات من الطفولة في بركة الفيل قرب السيدة زينب. ويبدو أنَّه قد عاش طفولةً تنقصها الصحبة مع أقرانه والتمتع بالسباحة في ترعة القرية لأنَّ الوالد قد منعه من ذلك بسبب انتشار البلهارسيا. وبالمُحصلة أنَّ هذا الحجر الصحي قد أفاده وأخذ تستأثر حكايات الجدِ باهتمامه ويتبعه أسبوعيا إلى الحضرة الصوفية. كما كان يتفرغ في عُطلة الصيف إلى الرحلة في عالم الكتب وتتسعُ في المرحلة الثانوية حلقة الأسماء التي يهتمُ صبري حافظ بقراءة أعمالهم إذ تفتحُ له رواية روبنسون كروز الطريق إلى الأدب الأنكليزي. وما إن يستقر به المقام في القاهرة حتى يرشحه مدرس اللغة العربية لإشراف على مكتبة المدرسة وليس هذا الامتياز سوى مُكافأة لقراءاته، يشيرُ المؤلف إلى أنَّ مكتبة قويسنا الثانوية كانت ثرية بالعناوين وتضمُ ماصدر من مشروع كتب الألف كتاب الأولي الذي أطلقه طه حسين عندما كان مديرا لقسم الترجمة والنشر في وزارة المعارف يكشفُ صبري من مكانه سلسلة "الكتاب الذهبي" ويقرأ ضمنها بعضَ روايات نجيب محفوظ. إلى هنا يتضحُ دور البيئة التي يكون فيها للثقافة نصيب وافرُ في عملية التنشئة العقلية والأهمُ في هذا المجال هو وجودُ رأس المال الفكري الذي يرمزُ إليه الأدباءُ والمفكرون. ومن الجلي بأنَّ هؤلاء الصفوة المُتفانية مع الرسالة لايُضيقُ دورها في الجانب الوظيفي والمؤسساتي إنما يمتدُ إلى فضاءات أوسع كما يشهدُ على ذلك مايرويه صبري حافظ عن الندوات التي تقامُ في المقاهي منها ندوة نجيب محفوظ الأسبوعية التي كانت تعقدُ صباح كل جمعة في كازينو صفية حلمي ودأب المؤلف على التردد عليها مؤكداً بأنه بعد الدراسة في أكبر الجامعات الأمريكية والأوروبية ومتابعة اللقاءات التي كانت تنظم فيها لاحظ بأنَّ ما تزوده به ندوة محفوظ لم يكنَّ أقل أهمية مما يقدمُ في الحاضنات العلمية.كذلك فإنَّ ندوة الأديب أنور المعداوي قد ذاعت شهرتها واكتظت بالكتاب المصريين واللاجئين العرب من خلفيات سياسية وفكرية متنوعة وكان صدام حسين من بين هؤلاء الحضور. توحي اللمحات التي يذكرها المؤلفُ عن شخصية المعداوي بأنَّ الأخير كان مثالاً يقتدى بوعيه لأهمية استقلاله وكبريائه.ويشير صبري حافظ في ذات السياق إلى إعجابه بدراية لطيفة الزيات في تحليل النص وسلاسة محمد مندور ومواقفه. ومايشدُ الانتباه أكثر هو تقدير الرواد للكتاب الجدد والتعهد بالموهبة والطاقات الواعدة.وهذا ماوجده صبري حافظ في أستاذه يحيي حقي الذي استضاف صالون مجلته أصوات أدبية جديدة. مشيراً إلى مرونة محفوظ واحتفائه بالمقال الذي نشره عن رواية "اللص والكلاب" يضيفُ حافظ مقالات محمد حسنين هيكل التي كانت تنشر في محلق الأهرام الأسبوعي إلى جانب كتابات زكي نجيب محمود وعائشة عبدالرحمن وحسين فوزي ضمن الرافد المؤثر على تكوينه الفكري.ما تراكمَ لدى صبري حافظ من خلال معايشته مع النخبة المؤسسة يكونُ دافعاً للبحث عن المساحات غير المطروقة لمغامرته الفكرية إذ ينشيءُ مع مجايليه تنظيما سياسياً باسم (وحدة الشيوعيين) يكون أقرب إلى حلقة ثقافية تستهدف فهما أعمق للواقع وكشف فجوات النظام المغلف بغطاء الاشتراكية.ورفض مظاهر القمع والاستبداد دون التنكر لايجابيات الحراك الاجتماعي ومن العناوين التي زادت أعضاء هذه الحلقة وعياً بمايعتملُ به الواقع يذكرُ المؤلِفُ (المبادىء الاساسية للفلسفة) لجورج بولتزير.يشار إلى أن معظم أفراد هذه الجماعة يتم اعتقالهم في سنة 1966 ويخلى سبيلهم بعد تدخل جان بول سارتر.على الرغم من تغول السلطة و مصادرتها لحرية التعبير لكن صوتَ الكبار وعلى رأسهم كل من العقاد وطه حسين كان مسموعاً في معارضة تدخل العسكر في أمور الثقافة ونقل الشهودُ الأخبار عن صولاتهم ومقاومتهم لمرامي الدولة.عليه لايخلوُ الوسط الثقافي من الفئة التابعة والمُطوعة أو مايسميه حافظ بحملة الحقيبة أو قومسياري الثقافة وبالطبع لايعقل الانتظار من هذا الصنف غير الترديد لأقاويل لاتخدمُ غير أجندة الأسياد وحتى لو ترى بينهم من يكون أريباً بأفكاره فإنَّ ذلك لايشفع له تبوأ مقعده في صف الكبار.لايغضُ المؤلفُ النظر عن تبعية بعض المثقفين من جيله ولايعفيهم من انتقاده اللاذع.ومن بينهم أسماء معروفة على نطاق واسع.

في حضرة العميد

يستمدُ الزمن فرادته وقيمته من الفاعلين في جريانه مايقدمه صبري حافظ عن المشهد الثقافي الذي عاصره يؤكدُ بأن المشروع النهضوي ينضجُ بما تجودُ به العقول المُتطلعة لتثوير الزمن وكسر رتابته.يتشابكُ في مروية صاحب "جدل الرؤى المتغيرة"هموم الفكر وذكريات شخصية وآراء انتقادية بشأن كل ما يراه طارئاً على الفكر والثقافة.كما يتاقطعُ خيطُ السرد مع أدب الرحلة لاسيما في المبحث الذي يتناولُ فيه الكاتبُ سنوات دراسته في بريطانيا ومساعيه الحثيثة لاختراق الحواجز والأسوار التي تعيق رغبة الاستكشاف المعرفي. لكن كل مايردُ في إطار الكتاب كأنَّه حاشية للفقرات التي يستدعي فيها المؤلفُ لحظة لقائه بالعميد.أراد صبري حافظ الانتقال إلى اللجنة التي يرأسها طه حسين في "المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية" والغاية من ذلك ليس أكثر من اللقاء بصاحب "الحب الضائع" فعلا يتحققُ مايتمناه ويزورُ بيت طه حسين "رامتان" مرتين إذ يقدمُ نفسه بوصفه موظفاً يكتب محضر الجلسة وما يلفت النظر في هذا الموقف هو لطافة العميد في الاستقبال ومخاطبته للضيف بالأستاذ ومن ثمَّ يرحب حديثه الودي بجميع أعضاء اللجنة ويناقشهم حول الواقع الثقافي وما أخذ باهتمام المتابعين أنذاك عن محنة مكتبة العقاد بعد رحيله.وفي اللقاء الثاني يرى جانباً آخر من شخصية العميد يتجسدُ في اهتمامه بالأدباء الواعدين في بقية البلدان العربية والأهمُ هو أن طه حسين يعرفُ بأن ضيفه ليس مجرد موظف بل له مشاركة في منابر ثقافية وهذا مايحدو بطه حسين للسؤال عن المجال الذي يكتبُ فيه صبري حافظ إلى أن يخبره بأن جيله سيكون مضطراً لخوض نفس المعارك خاضها الروادُ من أجل حرية التعبير. ويخيلُ إليك وأنت تتابع قراءة مايسرده الكاتب عن رحلته المعرفية في مصر و الغرب بأنَّ ماحققه هو امتدادُ للنهج الذي خطه العميد وأنداده في عصر التنوير.أخيراً كما يقول ُ بورخيس فإنَّ الأدب قد أثرى العالم ليس من خلال الكُتب فحسب ولكن من خلال إعطائنا نموجاّ أخر من الرجال رجال الأدب وهذا ماينطبق على طه حسين وجيله.إنَّ كانت للعميد مشكلة فهي أنَّه قد رأي أبعد مما تستطيع مصر تحمله على حد تعبير "جان كوكتو" طبعا المراد من مصر في العبارة هو الشرق كله.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram