حيدر المحسن
بلغ عدد آيات القران التي ورد فيها ذكر للنخل 21 آية، منها الآية التي تبيّن استخدام الأقدمين جذوع النخيل لصلب السحرة واللصوص والمعترضين على نظام الحكم: "فلأ قطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنّكم في جذوع النخل ولتعلمنّ أيّنا أشدّ عذابا وأبقى". سورة طه الآية 71.
يستغرق الوقت الذي يمضيه المصلوب حتى يموت ثلاثة إلى أربعة أيام، وفي رواية سبارتاكوس أو (ثورة عبيد) للأمريكي هوارد فاست تفاصيل مثيرة عن عملية الصلب، وكيف ينكمش جلد الشخص المصلوب جوعا، ولونه وهو يتقلّب في دروب الموت، والكلام الذي يقوله في النزع الأخير، وبلغ عدد المصلوبين في الفصل الأول من القصّة (6472) رجلا وامرأة. هي مقبرة جماعية على الهواء، إن صحّ التعبير. هل كانت أعذاق النخيل تحنو على هؤلاء؟
يقول كمال الدين القاهري صاحب كتاب (حياة النبات والحيوان): "تشبه النخلة الإنسان فهي ذات جذع منتصب ومنها الذكر والأنثى وإنها لا تثمر إلا إذا لُقّحت، وإذا قطِع رأسها ماتت وإذا تعرّض قلبها لصدمة قويّة هلكت... فهل لا تكون هذه الصفات شبيهة بصفات البشر؟".
هناك عادة متّبعة في العراق عندما لا تحمل النخلة ثمرا بعد الثانية عشرة من عمرها، تقوم إحدى النساء بضربها بالعصا، وتهدّدها بصوت عال إن هي ظلّت عاقرا فسوف تُقطع، وتحمل النخلة رطبا في الموسم نفسه، أو في السنة التالية. ألا يدلّ هذا، مع ما تقدّم من كلام للقاهري، على أن للنخلة صفات الكائن العاقل؟ إليكم دليل آخر:
امتدّ العمران في مدينتي إلى بستان عائشة، وصدر قرار من الحكومة بتحويل المكان إلى مبان سكنية. لكنه يضمّ ألوفا من أشجار النخيل، مما يعني إسقاطها جميعا وبأدوات بدائية لا تتعدّى الفأس والطُّبر والهيب. كلّ يوم، وما إن يتمّ الضحى، يلتمّ الشبّان حول النخيل وتبدأ المجزرة. ثم يجتاز القطع منتصف الجذع، وهو الحدّ الذي يكون بقاء النخلة فيه واقفة أمراً ميؤوسا منه، فهي تبدو عندها متألّمة أشدّ الألم، ومترفّعة أشدّ الترفّع، بلا صرخة احتجاج واحدة ولا أيّة مقاومة، وحده السعف يشهق في السماء ويشبه أسئلة بلا إجابة. ثم يغور الفأس داخل الجذع، ويقف الجميع على الجانبين في انتظار لحظة السقوط. يقوم عندها شابٌّ من حاملي الفؤوس بدفع الجذعَ، وتُسمع أصوات تكسّر، لتشرع النخلة في التهاوي من أعلى عُلاها. هذا الفعل فيه من القوّة والغموض بحيث أن الجميع لا يعرف ما سيجري بعده، رغم تكراره عشرات المرات في السابق. "ربما يكون الأمر هذه المرّة مختلفاً"، يقول كلّ واحد من الواقفين في سرّه، حتى حاملو الفؤوس، ليت عملية القتل لا تتمّ إلى النهاية. مثلاً: تميل النخلة ولا تسقط، أو تبقى مثل منارة الحدباء حيّةً وهي في حالة التداعي الدائم. هذا الأمل يدوم لحظات، يضمّ جميع الحاضرين في أثنائها أنفسهم كأنهم يشعرون بالبرد، رغم شدّة الحرّ. امرأة تمسك بيد طفلها تقف في أحد صفّي الجمهور الذي حضر للفرجة. ما إن مال الجذع، انفلت الطفل من يد أمه وراح يمشي قاصداً أباه الواقف في الصفّ المقابل. كانت النخلة تهوي والطفل يجري بخطوات ناعمة وسريعة مثل قطّ، وتوقف عندها الجميع عن الحركة، سكنتْ منهم حتى الأنفاس. لا أدري لمَ ثبتتْ عيناي على فم الأم جميلة القوام، المرسوم حدّ الكمال، وعلى عينيها الواسعتين ورموشها الطويلة والكثيفة، وكانت النخلة تهوي وتزداد سرعة الطفل في الجري. الوجوه كانت شاغرة عندما ارتطم الجذع والسعف بالأرض التي اهتزّت، وكان خطّ سقوط النخلة يقع حتما على رأس الطفل، لكنها مالت عن هذا الدرب في اللحظة الأخيرة، وتراكض الجميع إلى الطفل الذي بدا لاهيا عن المعجزة التي تحقّقت قربه.