غالب حسن الشابندر
خاطرة ومغزى
ماذا يقول الشاعر الانكليزي ملتون في ملحمته التاريخية (الفردوس المفقود)؟
إنّه شاعر القرن السابع عشر، انتفض على قواعد الادب الرخيص، واستمد من سلطة الحقيقة كما يراها قوة الافصاح عمّا يعتقد، يرنو إلى مجتمع متحرر، يرفض الرقابة على الفكر والروح، ويعلن قدسية القلم والكلمة.
وهو يستقريء في ملحمته التاريخ الماساوي للإنسان يقول: ـ
(وجلس آخرون في عزلة على تلٍ بعيد.
يتطارحون أفكارا أسمى وآراء أعمق.
عن العناية الإلهية والعلم الازلي والإرادة والقدر.
فلم يهتدوا إلى شيء بل ضربوا في الشعاب فضلّوا ولم يهتدوا.).
خالدة (الفردوس المفقود): الابيات 557 ــ 561.
ميلتون (1608 ــ 1674).
هل من جولة في رحاب هذا الشاعر العملاق الذي أصيب آواخر حياته بالعمى؟
الامر ليس بهذه السهولة...
لست أدري لماذا يذكِّرني هذا المقطع من الملحمة الخالدة بما انطبع على صفحات وتضاعيف العقلية الشيعية الشعبوية من صور العالَم... الجبال... الصحراء... السهول... الطيور...؟
ولست أدري لماذا يذكّرني هذا المقطع من الملحمة الاسطورية بماانطبع على صفحات العقلية الشيعية من صور ومفاهيم عن الحياة... الفرح... الحزن... الامل...اليأس..؟
وكذلك عن الزمن... اليوم... الشهر... السنة... بل التاريخ؟
ربما تبادرُ خواطر، ولكن لا تبادرَ دون مناسبة خفية تستدعيه، وفيما قد يكون ذلك استطرادا، حيث علم الكلام الاسلامي، بل الديني غارق في مثل هذه الابحاث، وإنْ كنتُ أنسى فلا أنسى رأيا للكاتب العراقي الراحل مدني صالح عندما يفسّر فلسفة ابن رشد وهي تتشعب إلى تلك الخرائط المعقدة إنها ــ أي فلسفة بن رشد ــ بمثابة استطراد، تبدا من فكرة خالصة جدا، ثم تتشعَّب استطرادا، فكأنها فلسفة إستدعاء لبعضها بحكم التجانس بين بذرة وشجرة!
كنت جالسا في مقهى رضا علوان في الكرادة الشيعية المسبية، وكان هناك موكب عزاء يخترق الشارع، جموع كبيرة، بين صراخ ولطم وضرب على الرؤوس وصياح وهتافات مقرونة باسماء أهل البيت عليهم السلام،خاصة إمام الإحرارسيد الشهداء الحسين بن علي عليه السلام، وأكثر ما شدّني إنتباها من كل هذا الحشد والشد منظر (النّقار).
كان نحيل الجسد، محسور الخصر جدا، وقد لفّ رأسه بخامة سوداء بطريقة فلوكلورية محكمة، يرتدي نعلا يكاد أن يكون ممزَقا، ودشداشة سوداء، ملتصقة تقريبا على عظام جسده المتهاوي...
كان يجيد النَّقر حقا، ضربا ت على ايقاع متَّسق، سريع الحركة، يداه تتناوبان بجدية ماهرة عودي النقر النحيفين.
وكل هذا يكاد أن يكون طبيعيا...
لكن المؤدي، فناَّن الَّنقر هذا، وفيما يستمر بالنقر يتحوَّل تدريجيا إلى حركة مذهلة حركة لولبية، وأكثر ما يسترعي نظر الراصد حركةُ رأسه، إذ يتحول إلى شبه بندول فاقد التوازن، يستغرق النَّقر كل رأسه، ولكن دون ناظمٍ ايقاعي متقن، يشدّه متناه المتقادمان الى الارض، لينطلق من جديد بحركة مجنونة باتجاه السماء، يرقص بهستيرية مفزعة، جسده الخشبي لا يهدا من فوران حركي مجنون
وأسأل نفسي وهذا هو الحال...
وأين الحسين هنا؟
ضاع...
النَّقر والرهز والحركات الهستيرية والالتفافات الجسدية المحورية هي الذات والموضوع، هي القصيدة والمُنشِد، هي الوسيلة والغاية، إلّا الحسين ودم الحسين وعيال الحسين وأصحاب الحسين عليه السلام.
أصلاً...
النّقار هذا في عالمه الخاص، له عالمه الخاص، لا يفيق حتى تهدأ كل الاصوات، يفيق منهكا... يحلُّ حزامه، يتناول عشاءه، ربما لا يصبر أكثر من ذلك، ثم يولي شطره المتداعي، مأوى يستدعي بعضه بعضا بالانذار...
ونقطة أو ملاحطة استرعت إنتباهي، ففي حدود خبرتي، ومنذ نعومة أظفاري كنت اراقب واشارك بالعزاءات الحسينية، وكان والدي طالما يتكفّل العزاء الحسيني في قضاء الحي... حيث هو أنا هكذا ومن خلال معايشة طويلة لم اجد يوما ابن برجوازي كبير أو متوسط يتولّى (وظيفة) النّقر في العزاء الحسيني، ولم اجد ان بن رجل دين كذلك، ولا ابن اقطاعي، ولا موظف، ولا رجل من اعيان المدينة...
إنّما ذاك هو المُعدم...
لباس سمل...
حذاء أجرد...
وطالما وفي اكثر الاحيان لباس داخلي طويل يتعدى ذيول (الدشداشة السوداء) المتهرئة، ولفافة راس أشهد أنها محكمة التدوير والشد.
هل هو قدر هذا (النّقار) المسكين؟
وقليلا ما اشاهد مثل هذه الظاهرة في العزاء الحسيني في المناطق المترفة، الغنية، المناطق التي يغلب عليها الترف والنعمة والنعومة والتقاليد الارستقراطية حتى وإن كانت منطقة شيعية خالصة!
حتى وإن كانت جوامعها كبيرة، مزخرفة، والإمام الراتب فيها مشهور بالعلم والفكر والتقوى، وربما من المتقدمين في تمثيل المرجعية الدينية، ومن ذوي الحظوة لدى الحوزات العلمية...
لماذا هذه المفارقة المُفجِعة؟
أليس هذا النقر من الشعائر كما يقولون؟
فهل هناك شعائر الاغنياء وشعائر الفقراء...
حقا هناك ما يؤيد ذلك!
هذا هو عالم الدين، عالم المنطقة، يتصدّر مجالس العزاء، مشيا على الاقدام، وفيما اصوات الضرب على الصدور نسمعها من بعيد، يقترب العالم المتصدّر من مرآنا فنرى العجيب...
مشية هادئة، حبّات السبحة الطويلة السوداء تتدحرج بين اصابعها الوقورة، وفيما كان يشارك الذي خلفه فضربات خفيفة على الصدر، يد تتحرك ببطيء وثقل وتكبّر تهوي يهدوء رتيب على صدر شامخ...
ورفقاء الشيخ كذلك، لا صيحة، ولا جهشة بكاء، ولا ضرب مبرّح على الصدر، ولا على الراس، ومشية طاووسية هادئة مهيمنة...
هل اللطم الخفيف على الصدور أكثر ثوابا؟
أم اكثر وقارا؟
أم اعمق رمزية؟
أم هذا هو المقرّر شرعا؟
يا لها من قسمة ضيزى!
ويالها من طبقية مقيتة، فيبدو أن الطبقية ليست في المال فقط، في المستوى المعاشي فقط، حتى في العزاء الحسيني...
هل رأيتم برجوازي ينقر على الطبل؟
هل رأيتم رجل دين يلطم على الحسين كما يلطم ابن شمهودة المشرّد أو الجائع أو ذو المهنة المُذلة أو ذو المهنة العادية أو الفقير الذي يستجدي الناس، او المدرّس، او الطبيب أو المحامي؟
أعرف سوف تستدلون على ذلك بشاهد من هنا وهناك، بمثل من هنا وهناك، وليس هذا بحجة دامغة، ذلك أننا نتحدث بلغة الظاهرة وليس الشواذ.
كذلك استرعى انتباهي حامل الراية، العلَم، الذي طالما يكون مصبوغا باللون الاخضر أو الاسود، وطالما يكون كبيرا، مرفوعاً عاليا، الحامل الخشبي مركوز من نهايته العارية بين جلدين، جلد البطن وجلد الحزام العريض الملتف حول الخصر...
وكل هذا امرٌ طبيعي كما هو حال النّقر والنّقار، ولكن على حين غرَّة يثبِّت حامل الراية قدميه على الارض، ويثني ركبتيه بزاوية قريبة من القائمة، ويلف الراية (يفرّها) بقوة، يلفُها حول نفسها، تظهر عليه علامة الزهو حيث يعتبر ذلك وكأنه اختبار لقوته العضلية، وفيما يفلح في ذلك يستمر بهذه الحركة الدائرية، ومجرد أن تراقب رأسه تشعر بإنه في نشوة غامرة، فإن الاختبار قد نجح...
هل حقا عندما كان حامل الراية هذا يفكر بمأساة الحسين على وقع حركة الراية الدائرية؟
ما زلت اتذكر ما يتداوله الناس علامةً على قوة هذا الشخص أو ذاك، فيذكرون ما يسمونه (حامل الهودج)،، والهودج كيان خشبي علىن شكل قوس مزروع بالمصابيح وربما السلاسل أيضا، محمول على رافعة خشبية مستديرة قوية، وحامل الهودج يغرز هذا الحامل بين جلدة بطنه وجلدة الحزام الملتف على خسرة لهذا الغرض، ومن الطبيعي أن يكون حزاما عريضا قويا مصنوعا من جلد قوي مرن...
هذا (الهودج) يُستعمل للاضاءة في العزاء الحسيني...
وحامل الهودج يتفنن في تحريك الهودج، يمينا ويسارا، وفي بعض الاحيان يلتف بالهودج من اليمين إلى اليسار، ومن اليسار الى اليمين، فتلتف الانارة محدثة توهجا منتقلا على شكل دائرة، وعندها، وفي مثل هذه الحالة بالذات يتعالى الصوت بالصلاة على محمد وآل محمد عليهم الصلاة والسلام.
النقطة الملفتة، إن الناس عندما يتحدثون عن معايير القوة يضربون المثل بحامل الهودج.
هذا الرجل قوي جدا، فإن يحمل (الهودج) ومن دون ذكر الحسين عليه السلام، فهم لا يقولون (حامل هودج الحسين)، وإنما (حامل الهودج) وحسب!
أليست هذه مفارقة ملفتة للنظر؟
العقلية وليس العقل
العقلية غير العقل، العقلية نمط التفكير الشعبوي، أونظام التفكير المحكوم بالاعراف والتقاليد والتاريخ والعادات.
طريقة تَفْكير مردُّها إلى مُعْتَقدات وأَفكار وعادات تميِّز مُجتمعًا معيَّنًا أو جَماعة بَشَريَّة، ومن هنا يقولون ـ على سبيل المثال ـ "عقلية بدائية " أو " عقلية مدنية " أو " عقلية شوفونية " أو " عقلية عصبوية "....
الخلفية ليست مباديء عقلية، بل طيف واسع من الموروث الاجتماعي والعرفي والتقاليدي، فيما العقل هو جهاز الادراك، والذي يرى علم النفس إنّه متساو لدى البشر، مهما كان جنسهم او دينهم أومذهبهم أو وطنهم، حتى لو كان الانسان من سكان الغابات الوحشية، او هو ذات المباديء الفطرية الاولى كما يرى بعض الفلاسفة، مثل مبدا السببية أومبد استحالة اجتماع النقيضين وما شابه ذلك، حسب تصوراتهم وتفكيرهم.
العقلية ليست ذات (العقلي)، فإن الاخير نسبة إلى العقل، والذي يوحي بان موضوعه من مدركات العقل بالمعنى الفلسفي، اي خاضع لسنن التفكير العقلي حتى وإن كان خطا.
العقلية طرز تفكير مطبوع ومتاثر وناشيء من الاجتماع، من العادات والتقاليد والتصورات الشعبوية والموروث العرفي غير المُستدل عليه.
فالعقلية ليست العقل الشيعي، كما أن العقلية السنية ليست العقل السني، فالعقلية قد تكون موضع استهجان ومدح، قبول ورفض، أما العقل برسم كونه جهاز إدراك أو برسم كونه ذات المباديء الفطرية الاولى فليست محل استهجان حتى إذا وجد من ينكر العقل برسم كونه جهاز إدراك او المعاني الفطرية الاولى، إنما إنكار العقل بهذين الحدّين لا يعني الاستهانة بهما.
جميع التعليقات 2
عباس عقيل
مقال رائع رغم روح المأساة فيها الى أنها تفكك او تساهم في تفكيك ظاهرة اجتماعية إنسانية وجودية في المخيل الديني الشعبي الذي يستثمر في تخذير ألام الناس الى درجة يعولون عليها اكثر من السماء في تخفيف معاناتهم اي تناقض اي انفصام عن الواقع أشرت إليه
أحمد الغزي
جميل المقال كجمال روحك ابا عمار