TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: عندما بكى كابريو

قناديل: عندما بكى كابريو

نشر في: 6 إبريل, 2024: 11:05 م

 لطفية الدليمي

ظهر (فرانك كابريو)- القاضي الرحيم كما اصبح يوصف في كل جهات العالم- وهو يعلنُ في تسجيل فيديوي إصابته بسرطان البنكرياس، ثمّ راح وهو مختنق بالعبرات يوصي الناس بوصية مَنْ هو موقنٌ على قرب مغادرته الحياة:

عيشوا كلّ دقيقة في حياتكم ولا تفرّطوا بها. أحبوّا عوائلكم. كونوا لطفاء مع البشر ورحماء بهم. ثمّ طلب من مشاهديه طلباً واحداً: فقط أطلبُ منكم صلاة صغيرة من أجلي.

جلستُ أشاهد كابريو غير مرّة وأفكّرُ في ما قاله وطلبَهُ. هذا الرجل الفاضل الذي فاضت روحه الطيبة على كلّ من تعامل معه في ميدان القضاء أو خارجه، لماذا يطلبُ صلاة الناس ليترفّق به الاله؟ الاله أعرفُ بخلصاء البشر ودواخلهم وما قد يبطنون؛ فلماذا يطلب كابريو صلاة البشر لتشفع له وتخفف عنه ألم المرض؟ لا أظنُّ أنّ كابريو مهتمٌّ كثيراً بألم المرض رغم أنّ المعروف عن سرطان البنكرياس كونُهُ أحد أكثر السرطانات شراسة. كان كابريو يريد تخفيف ألم مفارقة الأحبة والناس الطيبين. هذا أحد أعظم الدروس التي يمكن أن نتعلّمها بعد طول عيش وخبرة: لا ألم في العالم يوازي ألم فقدان من نحب.

هذا الرجل: فرانك كابريو، يصلحُ أن يقدّم لنا دروساً حيّة كثيرة. يمكنُ أن نتساءل مثلاً: لماذا صار كابريو هذا الرجل الخيّر المحب للعدل ومساعدة الآخرين؟ أظنُّ بسبب القدوة الفعّالة والحقيقية والنشطة. نشأ كابريو وسط عائلة إيطالية كاثوليكية مهاجرة إلى أمريكا. عانى أبواه كثيراً لتأمين لقمة العيش. عمل أبوه في تأمين توصيل الحليب الطازج إلى البيوت كلّ صباح. يروي كابريو في أحد تعليقاته خلال جلسات المحاكمة التي يديرها أنّ بعض العملاء لم يكونوا قادرين على دفع ثمن الحليب الطازج رغم أنّ لديهم أطفالاً صغاراً يحتاجونه؛ فكان يسدّد الثمن من جيبه الخاص. هذا ملمح من سجايا الوسط العائلي الذي نشأ فيه كابريو. تعلّم أنّ الدين الحقيقي ليس كلاماً مجانياً أو طقوساً نهذر بها؛ بل هي أفعال حقيقية. لم يسمع كابريو يوماً أباه وهو يملأ أذنيه بعبارات تقول: الشاطر هو من يملأ سلاله عنباً وتيناً، ويتفنّن في وسائل السرقة والالتفاف على القانون بذرائع دينية أو غير دينية.

كلُّ من شاهد كابريو يتحدث سيدهشُ لبساطته. الرجل يتكلم بلسان طفل لم يعرف التلوث أو المراوغة. روحه طليقة لا يستطيع المال أو كلّ ثروات العالم تدجينها أو ثلم رفعتها الاخلاقية. الاخلاق الرفيعة لا تحتاج أبداً إلى لسان مراوغ لن يتورّع في فنون الجدال العقيم والمراوغة الفجّة لكي يسوّغ لك سرقات صاحبه أو تعدّيه على المال العام أو الخاص. هؤلاء الكذّابون صرنا نعرفهم من وجوههم. يريدون جعل الصواب الاخلاقي والباطل الاخلاقي مسألة لعبة كلامية لعبوها كثيراً في دهاليز معتمة.

عندما يسمع كثيرون منّا هذا الكلام سيقولون أقوالهم المأثورة: الكفن ليس له جيوب، وليس ثمّة من مات وأخذ أمواله معه. لا أحبُّ تحويل السياق إلى مسارات دينية. هذا الخط من التسبيب يرتدعُ عن فعل الخطأ بفعل تذكرة الموت والحساب الأخروي الذي يتبعه. كثيرون يقولون هذه الاقوال عندما لا يكون متاحاً لهم فعل السرقة او النهب. إنها حيلة العاجز لتسكين روحه والمراوغة على قلّة حيلته. ثمّ تنكشف الحقائق عندما تتاح له الفرصة لمدّ يده على أصول المال سائلاً كان أم عقارات. العراق اليوم هو مختبر يومي لإستعراض أفعال هؤلاء السرّاق ومن يتبعهم من ذيول(فاشنستات وإعلاميين).

سيغادرُ كابريو هذه الحياة مثلما سنغادرها نحن؛ لكنّه فرق عظيم ذاك الذي يمايز بين من كانت حياته نسمة خفيفة هبّت على الارض وسعت لمساعدة البشر فيها ثمّ غادرت مصحوبة بحبّ الناس ودعواتهم الطيبة، وبين سرّاق كاذبين مكروهين جشعين كانت حياتهم عبئاً على الارض والبشرية، ثمّ غادروا الحياة مشيّعين بملايين اللعنات المضمرة و المعلنة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. عدي باش

    دعواتنا الصادقة للإنسان الطاهر كابريو .. بالشفاء العاجل و العافية و العمر المديد

يحدث الآن

المنافذ تحقق أكثر من 2.2 تريليون دينار إيرادات جمركية في 2025

التشكيلة الرسمية لمنتخبنا الأولمبي لمواجهة عُمان ببطولة كأس الخليج

الأمم المتحدة: 316 مليون متعاطٍ للمخدرات عالمياً

القضائية تستبعد نجم الجبوري من مقاعد نينوى الانتخابية

ثلاثة منتخبات تحجز مقاعدها مبكراً في ربع نهائي كأس العرب 2025

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

التلوث البيئي في العراق على المحك: "المخاطر والتداعيات"

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

 علي حسين أبحث في الأخبار ومجادلات الساسة عن موضوع لعدد اليوم ، وربما عن فكرة أقنع بها القارئ المحاصر بقطع الطرق والأرزاق، وبالعيش في مدن مثل حقول الألغام، شعارها التمييز، ومنهجها الإقصاء، ودليلها...
علي حسين

قناديل: حين استيقظ العراقي ولم يجد العالم

 لطفية الدليمي لعلّ بعض القرّاء مازالوا يذكرون أحد فصول كتاب اللغة الإنكليزية للصف السادس الإعدادي. تناول الفصل إيجازاً لقصّة كتبها (إج. جي. ويلز) في سبعينات القرن الماضي، عنوانها (النائم يستيقظ The Sleeper Awakes)....
لطفية الدليمي

قناطر: أنقذوا الثقافة من الأدعياء

طالب عبد العزيز منذ قرابة عقد من الزمن وأتحاد الادباء في البصرة يعاني من أزمة في اختيار مجلس إدارته، وهو بعلة لا يبدو التعافي منها قريباً، بسبب الاقتتال على المقاعد الخمسة الأولى التي تمثله....
طالب عبد العزيز

الانتخابات العراقية عام 2025: التحديات الداخلية في ظل ضغوط دولية متزايدة ..

كارول ماسالسكي ترجمة : عدوية الهلالي في يوم الثلاثاء، 11 تشرين الثاني 2025، أجرى العراق سادس انتخابات برلمانية ديمقراطية منذ سقوط صدام حسين عام 2003. وقد حققت القائمة الشيعية «ائتلاف الإعمار والتنمية»، بقيادة رئيس...
كارول ماسالسكي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram