لطفية الدليمي
ظهر (فرانك كابريو)- القاضي الرحيم كما اصبح يوصف في كل جهات العالم- وهو يعلنُ في تسجيل فيديوي إصابته بسرطان البنكرياس، ثمّ راح وهو مختنق بالعبرات يوصي الناس بوصية مَنْ هو موقنٌ على قرب مغادرته الحياة:
عيشوا كلّ دقيقة في حياتكم ولا تفرّطوا بها. أحبوّا عوائلكم. كونوا لطفاء مع البشر ورحماء بهم. ثمّ طلب من مشاهديه طلباً واحداً: فقط أطلبُ منكم صلاة صغيرة من أجلي.
جلستُ أشاهد كابريو غير مرّة وأفكّرُ في ما قاله وطلبَهُ. هذا الرجل الفاضل الذي فاضت روحه الطيبة على كلّ من تعامل معه في ميدان القضاء أو خارجه، لماذا يطلبُ صلاة الناس ليترفّق به الاله؟ الاله أعرفُ بخلصاء البشر ودواخلهم وما قد يبطنون؛ فلماذا يطلب كابريو صلاة البشر لتشفع له وتخفف عنه ألم المرض؟ لا أظنُّ أنّ كابريو مهتمٌّ كثيراً بألم المرض رغم أنّ المعروف عن سرطان البنكرياس كونُهُ أحد أكثر السرطانات شراسة. كان كابريو يريد تخفيف ألم مفارقة الأحبة والناس الطيبين. هذا أحد أعظم الدروس التي يمكن أن نتعلّمها بعد طول عيش وخبرة: لا ألم في العالم يوازي ألم فقدان من نحب.
هذا الرجل: فرانك كابريو، يصلحُ أن يقدّم لنا دروساً حيّة كثيرة. يمكنُ أن نتساءل مثلاً: لماذا صار كابريو هذا الرجل الخيّر المحب للعدل ومساعدة الآخرين؟ أظنُّ بسبب القدوة الفعّالة والحقيقية والنشطة. نشأ كابريو وسط عائلة إيطالية كاثوليكية مهاجرة إلى أمريكا. عانى أبواه كثيراً لتأمين لقمة العيش. عمل أبوه في تأمين توصيل الحليب الطازج إلى البيوت كلّ صباح. يروي كابريو في أحد تعليقاته خلال جلسات المحاكمة التي يديرها أنّ بعض العملاء لم يكونوا قادرين على دفع ثمن الحليب الطازج رغم أنّ لديهم أطفالاً صغاراً يحتاجونه؛ فكان يسدّد الثمن من جيبه الخاص. هذا ملمح من سجايا الوسط العائلي الذي نشأ فيه كابريو. تعلّم أنّ الدين الحقيقي ليس كلاماً مجانياً أو طقوساً نهذر بها؛ بل هي أفعال حقيقية. لم يسمع كابريو يوماً أباه وهو يملأ أذنيه بعبارات تقول: الشاطر هو من يملأ سلاله عنباً وتيناً، ويتفنّن في وسائل السرقة والالتفاف على القانون بذرائع دينية أو غير دينية.
كلُّ من شاهد كابريو يتحدث سيدهشُ لبساطته. الرجل يتكلم بلسان طفل لم يعرف التلوث أو المراوغة. روحه طليقة لا يستطيع المال أو كلّ ثروات العالم تدجينها أو ثلم رفعتها الاخلاقية. الاخلاق الرفيعة لا تحتاج أبداً إلى لسان مراوغ لن يتورّع في فنون الجدال العقيم والمراوغة الفجّة لكي يسوّغ لك سرقات صاحبه أو تعدّيه على المال العام أو الخاص. هؤلاء الكذّابون صرنا نعرفهم من وجوههم. يريدون جعل الصواب الاخلاقي والباطل الاخلاقي مسألة لعبة كلامية لعبوها كثيراً في دهاليز معتمة.
عندما يسمع كثيرون منّا هذا الكلام سيقولون أقوالهم المأثورة: الكفن ليس له جيوب، وليس ثمّة من مات وأخذ أمواله معه. لا أحبُّ تحويل السياق إلى مسارات دينية. هذا الخط من التسبيب يرتدعُ عن فعل الخطأ بفعل تذكرة الموت والحساب الأخروي الذي يتبعه. كثيرون يقولون هذه الاقوال عندما لا يكون متاحاً لهم فعل السرقة او النهب. إنها حيلة العاجز لتسكين روحه والمراوغة على قلّة حيلته. ثمّ تنكشف الحقائق عندما تتاح له الفرصة لمدّ يده على أصول المال سائلاً كان أم عقارات. العراق اليوم هو مختبر يومي لإستعراض أفعال هؤلاء السرّاق ومن يتبعهم من ذيول(فاشنستات وإعلاميين).
سيغادرُ كابريو هذه الحياة مثلما سنغادرها نحن؛ لكنّه فرق عظيم ذاك الذي يمايز بين من كانت حياته نسمة خفيفة هبّت على الارض وسعت لمساعدة البشر فيها ثمّ غادرت مصحوبة بحبّ الناس ودعواتهم الطيبة، وبين سرّاق كاذبين مكروهين جشعين كانت حياتهم عبئاً على الارض والبشرية، ثمّ غادروا الحياة مشيّعين بملايين اللعنات المضمرة و المعلنة.
جميع التعليقات 1
عدي باش
دعواتنا الصادقة للإنسان الطاهر كابريو .. بالشفاء العاجل و العافية و العمر المديد