اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: المساء الأبيض

باليت المدى: المساء الأبيض

نشر في: 8 إبريل, 2024: 12:40 ص

 ستار كاووش

في هذه الحياة وعلى هذا الكوكب ما يكفي للعيش من أجله، كذلك هناك ما يكفي لسد حاجاتنا جميعاً. لِمَ لا يفتح الانسان قلبه ويديه لأخيه الانسان في كل الظروف؟ فكلنا سنمضي ونذهب تاركين كل شيء وراءنا مهما علا شأننا وكبرت ذواتنا المتضخمة. حتى الأشياء المعنوية علينا تقاسمها مع الآخرين سواء الذين نقابلهم في الطريق أو الذين نتحدث معهم. فالناس الأنقياء الطيبون حقاً، هم من يفعلون ذلك عادة، يمدون يد العون بكل بساطة وفي مناسبات عديدة.

الجمال الذي نبغيه لا يكمن فقط في المتاحف أو في صالات العرض الفاخرة ولا حتى بمظهر الانسان، بل هو في النفوس بالدرجة الأساس، في حياء العيون وعند المشاركة. والمفارقة هي إن الجميع يرددون بأن العطاء يمنح الانسان السعادة أكثر مما يمنحه الأخذ، لكن مع هذا يتردد الجميع بالقيام بذلك.، فالتردد بالمبادرة، التهيب من الآخر، التخوف من الأفكار المُسَبَّقة والتوجس من الغريب يحول الحياة الى مجموعة مصدات ودفاعات وهمية، نسقيها بأفكار مضلَّلَة.

أعجبتني فكرة يقوم بها الكثير من الايطاليين حين يربطون الشرفات الصغيرة لشققهم مع شرفات الجيران الذين يحاذونهم بلوح خشبي عريض يشبه سطح الطاولة، لتكون فعلاً طاولة يتقاسمونها فيما هم يجلسون كل في شرفته، حيث يضع كل منهم بعض الطعام والشراب ويقاسمون ذلك كما يتقاسمون الأحاديث والضحكات التي تصدر من القلب، وعند نهاية المساء يرفعون هذه الطاولة المؤقتة ويعود كل منهم لداره. كذلك ما يتركه بعض رواد المقاهي صباحاً، والذين يحتسون قدح واحد من القهوة مثلاً لكنهم يدفعون ثمن ثلاثة أقداح، حيث يبقى القدحين الآخرين معلقان في الحساب ويمنحهما صاحب القهوة لكل من يسأل وهو لا يملك ثمن قدح القهوة، وهكذا صار من الطبيعي أن يأتي أحد الأشخاص المعوزين صباحاً ويسأل صاحب المقهى بهدوء إن كانت هناك أقداح قهوة مُعلقة؟ وفي هذا الصدد لا يمكن نسيان ذلك التمثال البرونزي الموجود في جورجيا، والذي يمثل شخصاً جالساً ويفتح قبعته مثل المتسول ناظراً الى البعيد، فيمر عليه الناس الميسورين ويضعون في القبعة بعض النقود، ليأتي المحتاجين ويأخذون أي مبلغ صغير من القبعة لشراء شطيرة أو شراب أو أي شيء آخر يحتاجونه. يا لجمال التكافل الاجتماعي ويا للروح الجميلة التي مازال الكثيرون يتمتعون بها.

أحاول أن أتواصل دائماً بعفوية ومحبة مع الآخرين، والبارحة مثلاً تلقينا دعوة صغيرة من جيراننا لتناول البيتزا التي يَعِدّونها في حديقة البيت عادة. جاءَ المساء فعَبرَتْ رائحة البيتزا السياج الذي يفصلنا، معلنة عن بدء اللقاء، فذهبنا أليس وأنا بالموعد، وهناك كانت الجارة لينيكا تعد الطاولة وسط الحديقة فيما زوجها هينك منشغل بإخراج بعض قطع البيتزا من الفرن الحجري الذي إنتصبَ على مبعدة بضعة أمتار من الطاولة. هما يعملان منذ سنوات طويلة فى تصميم المنحوتات الزجاجية التي توضع في الحدائق، ومازالا يعيشان بطريقة الهيبيز. وبما إن لينيكا لا تشتري الجعة من السوبرماركت، بل تصنعها بنفسها في البيت عادة، لذا كانت صناعة يدها حاضرة على الطاولة وحين سألتنا إن كنا نرغب بمشاركتها شرابها المفضل لم نتردد بالموافقة، لتتعدد الأقداح وتمضي الساعات بين حركة هينك نحو فرن البيتزا، وخطوات لينيكا وهي تجلب القناني تباعاً من القبو الذي يقع فى مؤخرة البيت. وأثناء الحديث عرفت بأنها ستقوم في الأسبوع القادم بصنع وجبة الجعة الجديدة التي ستسد حاجة الربيع، واتفقنا أن أكون حاضراً لتتبع خطوات صناعة الجعة البيتية، فالامر لا يخلو من الطرافة والتشويق، يضاف الى ذلك طبعاً بضعة قناني أجلبها معي الى المرسم (على أن أعيدها لها بعد أن تفرغ لتعيد تعبئتها من جديد). كانت أمسية جميلة تخللتها الكثير من التفاصيل والضحكات والحديث عن الفن وأخبار الجيران طبعاً. الجميل إن كل شيء تقريباً كان ابيضاً في هذه الأمسية، فقد بدأنا بالحساء الذي أعده هينك من الفطر الأبيض، لتأتي بعده البيتزا التي فاجئتني بلونها الأبيض وتدرجاته المختلفة وقد علتها شرائح من جبن الموزيريلا ونوعان آخران من الجبن الأبيض. وبعد العشاء جاء الآيس كريم بلونه الأبيض الذي تعلوه طبقة من جوز الهند المبروش، وحين مضت الأحاديث وتشعبت الحكايات أحضر هينك القهوة التي رافقتها شيكولاته بيضاء بالحليب. أحاديث وقصص لا تريد أن تنتهي تتعلق بالجيران والرسم والمناخ الهولندي الذي لا يخلو من المطر الدائم. هينك يُمرر الآلة القاطعة فوق قطعة البيتزا الدائرية، فيما تقطع لينيكا الطريق نحو القبو لجلب قنان جديدة، وبين هذا وذلك ينعكس ضوء الفرن على المنحوتات الزجاجية الملونة التي توزعت في الحديقة.

في نهاية المساء إجتزأ هينك قطعتي بيتزا كبيرتي الحجم ووضعها في صحن من البورسلين المرسومه عليه زهوراً بلون أزرق، ووضعه على طرف الطاولة قائلاً وهو يشير بإصبعه النحيل (لا تنسيا أن تأخذا هذه البيتزا معكما) ثم أكملَ ضاحكاً (هذا سيوفر عليكما الطبخ يوم غد) رحبنا بالفكرة وعدنا نحمل الصحن المزخرف والبيتزا البيضاء وتركنا خلفنا أحاديثاً بيضاً مثل قلوب جيراننا الطيبين.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

العراق الثاني عربياً باستيراد الشاي الهندي

ريال مدريد يجدد عقد مودريتش بعد تخفيض راتبه

العثور على جرة أثرية يعود تاريخها لعصور قديمة في السليمانية

"وسط إهمال حكومي".. الأنبار تفتقر إلى المسارح الفنية

تحذيرات من ممارسة شائعة تضر بالاطفال

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: العميل "كوديا"

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

 علي حسين ما زلت أتذكر المرة الأولى التي سمعت فيها اسم فولتير.. ففي المتوسطة كان أستاذ لنا يهوى الفلسفة، يخصص جزءاً من درس اللغة العربية للحديث عن هوايته هذه ، وأتذكر أن أستاذي...
علي حسين

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (1-2)عطلة نهاية العام نقضيها عادة في بيت خوالي في بغداد. عام ١٩٥٨ كنا نسكن ملحقاً في معمل خياطة قمصان (أيرمن) في منتصف شارع النواب في الكاظمية. أسرّتنا فرشت في الحديقة في حر...
زهير الجزائري

دائماً محنة البطل

ياسين طه حافظ هذه سطور ملأى بأكثر مما تظهره.قلت اعيدها لنقرأها جميعاً مرة ثانية وربما ثالثة او اكثر. السطور لنيتشه وفي عمله الفخم "هكذا تكلم زارادشت" او هكذا تكلم زارا.لسنا معنيين الان بصفة نيتشه...
ياسين طه حافظ

آفاق علاقات إيران مع دول الجوار في عهد الرئيس الجديد مسعود پزشكیان

د. فالح الحمراني يدور نقاش حيوي في إيران، حول أولويات السياسة الخارجية للرئيس المنتخب مسعود بيزشكيان، الذي ألحق في الجولة الثانية من الانتخابات هزيمة "غير متوقعة"، بحسب بوابة "الدبلوماسية الإيرانية" على الإنترنت. والواقع أنه...
د. فالح الحمراني
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram