لطفية الدليمي
لقطة أولى
بعد أيام قلائل من 9 نيسان 2003 خرج أحد العراقيين ليبحث عن فرن صمون يبتاع منه بعض ما يقيتُ به عائلته في تلك الايام المشحونة بالفوضى والخراب.
لمح من بعيد سيارة نقل كبيرة (تريلة) صفراء اللون. حدّثَتْه نفسُهُ أنه يعرف هذه السيارة. إقترب منها فصدق حدسه: كانت واحدة من أسطول سيارات وزارة التجارة المستخدمة لنقل مواد الحصة التموينية إلى المحافظات. كان الرجل يعمل واحداً من المشرفين على حركة هذا الاسطول الذي يقاربُ الالف سيارة. إقترب من السيارة فوجد بضعة رجال منهمكين في تفكيك قاطرة السيارة إلى مواد(تفصيخ)، وثمة سيارة حمل صغيرة ينقلون لها الاجزاء المفككة. لم يُطِق الرجل الاصطبار فحادث أحد رجال التفصيخ:
- مرحبا
- مرحبا أخي
- هذه سيارة من سيارات وزارة التجارة
- أعرف. ماذا تريد منها؟
- لماذا تفكّكونها؟
- هذه حصتنا من النفط!!
- وهل بهذه الطريقة تحصلون على حصتكم من النفط؟
- وماذا تقول انت؟
- ربما تحصلون أقلّ من حصتكم، وربما أكثر. ثم ماذا عن الآخرين؟
- لا شأن لنا بهم. لو أردت أنت إذهب واحصل على حصتك. الخير وفير
لم يكمل الرجل محادثته؛ فقد إستعجل شخص ملثّمٌ في سيارة البيك آب الصغيرة رجال التفصيخ ليكملوا مهمتهم، وحثّهم على العمل أسرع قائلاً: لدينا مهمّة طويلة في نقل هذه الخردوات إلى من يسعى لشرائها، وسيدفع لنا دولاراتٍ خضراء لم نشمّ رائحتها من قبلُ.
لقطة ثانية
لم يتوقّف(....) أبداً عن الظهور على شاشات التلفاز في كل الفضائيات، مؤدلجةً كانت أو من غير خط آيديولوجي واضح السمات، وهو يلعنُ الغرب الكافر الذي يسعى تحت ستار الفلسفة الجندرية لتمرير مشاريعه الخبيثة في مجتمعنا العربي والاسلامي. لا ينسى (....) أبداً التحذير المصحوب بتهديد مبطّن من عواقب الانجرار إلى ما يضمره الغرب لنا من مؤامرات خبيثة يريد بها تشويه هويتنا وشخصيتنا وتراثنا؛ لكن عندما يجري الحديث عن الفساد لن يرى(...) الغرب شيطاناً يتوجّب رجمُهُ. حفظنا الدرس. حينها سيردّد (...) ومعه كثيرون هذه الديباجة التي صارت أقرب لواحدة من محفوظات الصف الاول إبتدائي: "الفساد حالة موجودة في كلّ الدول بما فيها الدول الغربية العريقة في الديمقراطية"، ثم سيمضي في رصف عبارات تفهم منها أنّ الفساد حالة متوطّنة من المستحيل علاجها. الغرب شيطان في كل شيء إلا في الفساد، حينها يصبح مثالاً عملياً يمكن توظيفه كمقايسة تسوّغ خراب أحوالنا والفساد الشامل في بلدنا.
لقطة ثالثة
شاعت مفردة (مجسّر) كثيراً هذه الايام حيث بغداد تشهد حملة مجسّرات. المفردة لها صلة بالجسر. ربما لأنّ الجسر يعني ربط ضفتي ممر مائي(نهر أو جدول،،،) فقد أختيرت مفردة (المجسّر) لتكون دلالة على كلّ ما يربط طرفيّن على اليابسة. لا مشكلة في المفردة بالطبع. المشكلة في هذا التهليل والتطبيل لإفتتاح أحد المجسّرات (مجسّر قرطبة). ليس أكثر من 700 متر من طريق يستند على دعامات. ليس فيه عبقرية إنشائية فريدة من نوعها. ثمّ أنّ الشركة المنفّذة للمشروع ليست عراقية برغم كلّ العدد الكبير من الشركات التابعة لوزارة الاعمار والاسكان. صار افتتاح هذا المجسّر أقرب لحدث غير مسبوق؛ وكأنّ كلية الهندسة (قسم الهندسة المدنية بالتحديد) في جامعة بغداد لم تكن أقدم كلية هندسة في منطقتنا العربية. هل نسينا أو تناسينا أنّ العراق بنى في أقسى الظروف وبجهوده الخاصة منشآت أعقد بكثير من هذا المجسّر؟
ماذا سنفعل لو أنشأنا بجهودنا الخاصة سدّاً عملاقاً مثل سدّ الممرات الثلاثة في الصين، وهو السدّ الذي يقول المختصون أنّ كتلته المائية الضخمة تسبّبت في إبطاء دوران الارض؟
لو تفكّرنا في آلاف الصور التي وُزّعت مع إفتتاح المجسّر لعرفنا سرّ هذا التهليل والتطبيل. يُراد إلصاق المشاريع لصقاً برجال وليس بدولة. هذه معضلة أزلية في العراق ستبقيه متخلفاً يرى المشاريع العادية إنجازات في عهد (فلان)!!
لقطة رابعة
ظَهَرَتْ بوجه بلاستيكي منتفخ وهي تتغنّج وتلوك الكلام لتخبرنا أنها لا ترتضي قيادة سيارة إلا إذا كانت مهداة لها، وأن لا يقلّ ثمنها عن عشر (شدّات) أو إحدى عشرة (شدّة). ما أقبح لغة الشدّات!! عندما رأيتها تذكّرتُ الراحل الدكتور (محمّد فاضل الجمالي) الذي رفض أن يقبل شقّة متواضعة في تونس العاصمة هدية من الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة قائلاً: أنا رجل أعمل، ومن المنطقي أن أسكن في شقة أسدّد إيجارها من مرتّبي. هذا ما حصل بالفعل. ظلّ الجمالي يعمل أستاذاً جامعياً في تونس ويعيش في شقة بسيطة يسدّد إيجارها من راتبه رغم جهده العظيم في نصرة إستقلال تونس في الحكاية المعروفة التي حصلت وقائعها خلال واحدة من جلسات الامم المتحدة في خمسينيات القرن الماضي.
يقول الكوسمولوجيون (المختصون بالفيزياء الكونية): لا وليمة مجانية في الكون، ومن المنطقي أكثر القولُ: توجد هدايا معقولة يتبادلها البشر العقلاء؛ لكن لا هدية مجانية تبلغ عشر شدات أو أكثر!! هذه ليست هدايا. أنتم تعرفون ما تكون.
لقطة خامسة
مواطن مصري هاجر إلى أمريكا منذ خمس وعشرين سنة واستقرّ فيها وتجنّس بجنسيّتها وعمل في أعمال كثيرة فيها، ويقدّم في فيديوهاته خبرات جيّدة لمن يريد التعلّم من خبرات الآخرين.
يظهر هذا المواطن المصري-الامريكي في أحد الفيديوهات السياحية وهو يقود سيارته وسط شارع رئيسي في منطقة ميامي في فلوريدا. الشارع عريض ويقع على مقربة من شاطئ المحيط الاطلسي، وعلى جانبيه توجد مفارقة غريبة من مفارقات الفنتازيا الامريكية: على الجانب الايمن من الشارع توجد فلل فارهة تحيطها حدائق واسعة، ويبدو أنّ أصحابها تعمّدوا حجب فللهم عن الناظرين فعمدوا لزراعة أشجار عالية دائمة الخضرة لتكون سوراً يصدّ الناظرين. يعلق صاحب الفديو أنّ كل واحدة من هذه الفيلات تباعُ بخمسة أو ستة ملايين دولار، وقد تبلغ أقيامها في بعض المناطق عشرة ملايين دولار. يعقّب –بظرافة- أنّ تجّار السلاح والسُرّاق والمختلسين والوزراء الفاسدين ومُبيّضي الاموال من دول العالم الثالث -فضلاً عن أثرياء أمريكا من أمراء سوق الاسهم والسندات والعقارات وكبار مدراء البنوك- هم وحدهم القادرون على شراء مثل هذه الفيلات.
في الوقت ذاته، وعلى الجانب الايسر من الطريق توجد شقق مخصّصة حصرياً للمتقاعدين ممّن بلغت أعمارهم الخمسة والخمسين عاماً أو تجاوزتها. يمكن لواحد من هؤلاء المتقاعدين أن يحصل على شقة من تلك الشقق لقاء ثلاثين أو أربعين أو خمسين ألفاً من الدولارات. القانون الذي وضعته الولاية هو الذي يشترط هذه الاسعار، ولا يقبل بأن يسكن غير المتقاعدين ممّن بلغوا ذلك العمر أو تجاوزوه تلك الشقق.
حتى في أمريكا، مستوطنة الرأسمالية المتوحّشة وفلسفة السوق الحرة، توجد إمكانية لأن يتجاور الغنى الفاحش مع الحال المستور. ليس ساحل ميامي الساحرة إحتكاراً خالصاً للسرّاق وفاحشي الغنى. لماذا تريد كلّ الكعكة لك حتى لو استطعت السطو عليها كلّها؟
الغريب أنّ عبارات مثل (السوق الحرة) و(تشجيع الاستثمار) لم تسقط من ألسنة المسؤولين العراقيين بعد عام 2003‘ ثم تكشفت لنا النتيجة المُرّة: السوق الحرة ليست سوى سرقة حرّة، وتشجيع الاستثمار ما هو إلا مناورة بلاغية تعني غسيل الاموال ومراكمتها والاستحواذ على أراضي الدولة وعقاراتها، وعلى رؤوس الأموال من المصارف كذلك.
لقطة سادسة
لا وجود لنظام إقتصادي حقيقي في العراق. هو نظام رشوة. حتى العطل صارت رشوة لأنها لا تكلّف الحكومة شيئاً، وكثيرون من الناس يفرحون بهذا النظام لأنّهم يُؤثِرون التكاسل على العمل الجاد والمنظّم والمنضبط. فكّروا معي: ماذا سيحصل لو عجزت الحكومة عن إدامة نظام الرشوة هذا؟