TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > مسيحيو بيث نهرين في عهد الإتحاد المللي

مسيحيو بيث نهرين في عهد الإتحاد المللي

نشر في: 14 إبريل, 2024: 10:32 م

أنطون قس جبرائيل

( 1-2 )

لقرون عديدة عاش مسيحيو (بيث نهرين) بين مد وجزر يتناسبان مع المعيار الشخصي لحكامهم ، فكانوا يتمتعون لسنوات بالعيش الآمن الذي سرعان ما ينقلب إلى الضد بتغيير الحاكم والياً كان أو خليفة أو سلطاناً.

ومن الفترات الزمنية التي عاشوا خلالها بسلام آمنين على حياتهم وأموالهم كانت الفترة التي عاشوها تحت حكم (المللية) ، والتي امتدت لحوالي ثلاثة قرون شملت مناطق واسعة من بلاد النهرين ، حيث نعموا بأوقات السلم بوضع معيشي آمن ومستقر مع محافظتهم على دينهم ولغتهم ضمن مجتمع مركب الهوية يؤمن قادته بالمساواة وبالعيش المشترك.

يقدم هذا البحث دراسة تحليلية للمللية وللعلاقة التي ربطت بين الملليين ومسيحيي (بيث نهرين) ، ويقوم بمناقشة الدور الذي لعبه إبراهيم باشا المللي في الحفاظ على الوجود المسيحي في المنطقة وقتها ، وكيف أثرت وفاته عام ١٩٠٨م على مصيرهم.

أولاً : المقدمة :

‏عاش السريان منذ أقدم العصور فوق أرضهم التاريخية، ومنذ اعتناقهم المسيحية، تخلوّا عن الإهتمام بالقضايا السياسية، إلاَّ أن ذلك لم يجنبهم الإضطهاد على مر العصور، بداية من إضطهاد بعض القياصرة الرومان مروراً بالإضطهاد الأربعيني ، وصولاً إلى أحداث السيفو عام ١٩١٥م الكارثية التي كان أهم أسبابها إلتقاء مصالح بعض المتنفذين في السلطة العثمانية مع أطماع آغوات (بعض) العشائر الكردية، فقد تم إستغلال حالة الجهل والتخلف والتعصب الديني لدى تلك العشائر لتنفيذ مآربهم فكانوا (السيف الذي قطع رقاب المسيحيين وكان الأتراك اليد التي حركت السيف).

إن هول المجازر التي جرت يعرفه العالم بأجمعه، ولكن مالا يعرفه إلاَّ القلة من الباحثين هو وجود العديد من العشائر الكردية والعربية والأيزيدية التي عملت بقدر الإمكان لإنقاذ المسيحيين الفارين من المجازر وتضميد جراحهم ، وإنه من الواجب تسليط الضوء على المواقف الإنسانية لهؤلاء، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، مصطفى باشا زعيم عشائر الميران الكردية ، وآغوات عشيرة عباسا الكردية، والعديد من العلماء المسلمين الذين رفضوا إصدار الفتاوى بقتل المسيحيين كالشيخ فتح الله العين الكافي من قضاء مديات، والشيخ نوري السردحلي، ومفتي جزيرة ابن عمر أحمد حلمي وغيرهم.

فعلى سبيل المثال ، ذكر القس داؤود رمو في معرض حديثه ، عن مجريات الأحداث بتاريخ 23 آب من عام 1915م مايلي :

" ثم أن هذا القس العريان الصائر نصف ميت ، يثني على غيرة أولاد شمدين آغا في زاخو ، وعصمان آغا في الجزيرة. ربنا يكافيهم عوضنا بكل سعادة ممكنة. ونذكر للتاريخ هؤلاء النشامى ، الذين رحموا المسيحيين في وقت الضيق وساعات الشدة ، فقد احتضنوا مع السيد حمو شرو اليزيدي السنجاري ، ولدوافع إنسانية نبيلة، اعداداً كبيرة من المسيحيين الفارين من مخالب الوحش العثماني. "

إضافة لأغلب العشائر العربية التي مدت يد العون لهم ونذكر هنا خاصةً الموقف النبيل للشريف حسين الذي حث القبائل العربية للتعامل بالحسنى مع المسيحيين المنكوبين . حيث أن الدراسات التي تتعلق بمن يمكننا وصفهم بأصحاب الأيادي البيضاء قليلة جداً، لذا فإن هذا البحث يهدف لسد هذه الفجوة، وقد تم إختيار ويرانشهر (عاصمة) الإتحاد المللي لدراستها بإعتبارها أحد الأمكنة التي عاش فيها المسيحيون ومنهم السريان بأمان وطمأنينة ومساواة تحت قيادة الإتحاد المللي.

‏يعتمد البحث المنهج الوصفي التحليلي، حيث يصف الأوضاع السائدة في السلطنة العثمانية ومناطق الإتحاد المللي. و يقوم بتحليل المعلومات التي تم جمعها من المصادر التاريخية المختلفة في محاولة للوصول إلى تفسيرات عميقة لأوضاع المسيحيين في تلك الفترة ، كما ويهدف إلى فهم أفضل للعلاقات والتفاعلات بين مكونات المجتمع . ويسعى البحث للإجابة على السؤال التالي:

-إلى أي مدى أثرت وفاة أمير أمراء الكرد إبراهيم باشا المللي عام ١٩٠٨م وانحسار الدور السياسي للإتحاد المللي على مصير مسيحيي بيث نهرين ؟

للإجابة على سؤال البحث لابد لنا من توضيح الإطار التاريخي لتلك المرحلة ووصف الأوضاع التي كانت سائدة حينها.

أ- ‏أوضاع السلطنة العثمانية:

وصلت السلطنة العثمانية في القرن السابع عشر الميلادي إلى ذروة تفوقها العسكري والإقتصادي ، وكانت تحكم مناطق شاسعة من شمال إفريقيا وجنوب شرق أوروبا والشرق الاوسط.

وبرغم إحتفاظها بقوتها في القرن الثامن عشر الميلادي ، إلاَّ أنها خاضت حروباً مهمة أدت إلى تراجع نفوذها، وبحلول القرن التاسع عشر الميلادي كان التراجع واضحاً، وشهدت السلطنة العثمانية تدهوراً في الإدارة، وتحولات إجتماعية وإقتصادية وسياسية أدت إلى تراجع قوتها، وبدأت تخسر العديد من المناطق التي كانت تحت سيطرتها، وبدأت الحركات الوطنية في مختلف الأقاليم تنادي بالإستقلال عن السلطنة العثمانية.

وأدت هذه التحديات الكبيرة إلى إنهيار السلطة تدريجياً إلى حد إنهاء السلطنة العثمانية رسمياً بعام ١٩٢٢م, وتأسيس جمهورية تركيا في عام ١٩٢٣م بقيادة مصطفى كمال أتاتورك.

ب- ‏أوضاع منطقة بيث نهرين :

تعرضت منطقة (بيث نهرين) للخراب نتيجة إجتياحها من قبل جحافل هولاكو في عام ١٢٢٨م، ثم جحافل تيمورلنك بين عامي ١٣٩٤ و١٤٠١م . وكان إقليم الجزيرة الفراتية ، وهو الإقليم الذي قسمه الجغرافيون العرب إلى ( ديار بكر ، ديار ربيعة ، ديار مُضر) ، أحد أبرز الأقاليم التي تعرضت للخراب بشكل شبه كامل، واقتصرت فيه المناطق شبه الحضرية على بقاع محددة جداً . وبقي هذا الإقليم على هذه الحالة من الخراب حتى عام ١٦٩٦م، عندما حاولت السلطنة العثمانية إعماره، بقصد تأمين مصادر دخل تعوض خسائرها الحربية، من خلال تطبيق برنامج الإعمار العثماني الأول الذي كان يهدف إلى توطين العشائر الرُّحل ، ولكنه باء بالفشل. ولكن السلطنة أعادت الكرة بعد عدة عقود، وحاولت إعمار إقليم الجزيرة معتمدة على الإتحاد المللي المتجذر بالمنطقة منذ القديم . وكانت هذه المنطقة قد أصبحت (إضافةً للسريان والأرمن) موطناً للعديد من العشائر العربية والكردية والإيزيدية والتركمانية والقفقاسيون الشماليون (الشيشان) الذين وصلوها تباعاً بدايةً من عام 1882م.

ولضرورات البحث سأتحدث بإختصار عن بعض القبائل التي كانت منافساً رئيسياً للمللية .

ج- التعريف ببعض قبائل المنطقة :

1-قبيلة طيء : طيء الحاضرة هي في الغالب متحدرة من قبيلة طيء القحطانية القديمة. أما المستشرق الفرنسي مونتاني فيقول أنهم يمتون بصلة النسب لبعضهم فقط، وقد جاءت طيء الحاضرة إلى الجزيرة الفراتية من نجد في القرن الثامن عشر الميلادي، وفرضت سيطرتها على العشائر القديمة، ثم أزاحتها شمّر إلى منازلها الحالية حول نصيبين.

2-قبيلة شمّر : هاجرت شمّر الجرباء من منطقة نجد، وأقامت في منطقة الجزيرة، ووصلت إلى جبل سنجار شتاء ١٨٠٢ / ١٨٠٣م. وقد أرغمت عشائر المنطقة على مغادرة مواطنها التقليدية . وفي سنة ١٨٢٣م توسع نفوذ شمّر واصطدمت مراراً مع قبيلة العنزة . ‏إنَّ أقوى التحديات في الجزيرة لتفوق شمّر بصرف النظر عن العداء التاريخي مع عشيرة العنزة قد أتى من الملليين .

3-قبيلة العنزة: تنتمي إلى أقدم القبائل العربية العدنانية، موطنهم الأصلي أواسط نجد وشمالي الحجاز منهم آل سعود وآل الصُباح وآل خليفة، وقد وصلت العنزة إلى الفرات عام ١٧٠٥م وأبرز عشائرها: الحسنة، والفدعان، والولد علي، والسبعة، والعمارات، والرولة .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

باليت المدى: جوهرة بلفدير

العمود الثامن: ليس حكماً .. بل مسرحية كوميدية

 علي حسين قالوا في تسويغ الافراج عن بطل " سرقة القرن " نور زهير ، ان الرجل صحى ضميره وسيعيد الاموال التي سرقها في وضح النهار ، واخبرنا القاضي الذي اصدر قرارا بالافراج...
علي حسين

العراق بانتظار العدوان الإسرائيلي: الدروس والعبر

د. فالح الحمــراني إن قضية أمن البلاد ليست ذات أفق عسكري وحسب، وإنما لها مكون سياسي يقوم على تمتين الوحدة الوطنية والسير بالعملية السياسية على أسس صحيحة،يفتقدها العراق اليوم. وفي هذا السياق يضع تلويح...
د. فالح الحمراني

هل هي شبكات رسمية متشابكة أم منظمات خفية فوق الوطنية؟

محمد علي الحيدري يُشير مفهوم "الدولة العميقة" إلى شبكة من النخب السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، والاستخباراتية التي تعمل خلف الكواليس لتوجيه السياسات العامة وصناعة القرار في الدولة، بغض النظر عن إرادة الحكومة المنتخبة ديمقراطيًا. ويُعتقد...
محمد علي الحيدري

الليبرالية والماركسية: بين الفكر والممارسة السياسية

أحمد حسن الليبرالية والماركسية تمثلان منظومتين فكريتين رئيستين شكلتا معالم الفكر السياسي المعاصر، وتُعدّان من الأيديولوجيات التي لا تقتصر على البعد الفلسفي فحسب، بل تنغمس أيضًا في الواقع السياسي، رغم أن العلاقة بينهما وبين...
أحمد حسن
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram