ستار كاووش
كان مروري في الشارع الأخضر بمدينتي القديمة كافياً لإعادتي لتلك الأيام البعيدة، فها أنا بعد هذه السنوات الطويلة أقف بمحاذاة المقهى القديمة التي كنتُ أرتادها صحبة أصدقائي. مازالت رابضة في مكانها الغريب بمحاذاة كنيسة صغيرة من جهة اليمين، لم يتغير المكان كثيراً عدا المركز الرياضي على جهة اليسار والذي بانت أجهزته الحديثة من خلال النوافذ.
بدا الأمر مُطَمئِناً حيث إجتمعَ كل ما يحتاجه الناس في هذه البنايات الصغيرة الثلاث. أتذكر كيف تغيرَ كل شيء بعد أن ضعنا أقدامنا لأول مرة في هذه المقهى. قبل ذلك قمنا بالتنقل بين كل مقاهي المدينة تقريباً، لنستقر بالنهاية في هذا المكان. كانت البداية في مقهى أخرى في مركز المدينة، لكن سرعان ما إمتلأت بالكثير من الصخب والضجيج، فإستبدلناها بواحدة ثانية، لكن المقهى الجديدة لم تكن بحالة أفضل، فلم نتردد بتغييرها بثالثة، وهكذا مضينا نستبدل المقاهي، نخرج من واحدة لندخل في أخرى، حتى تحولتْ مقاهي المدينة الى ما يشبه الحديقة المليئة بالأزهار ونحن صرنا مثل مجموعة نحلات يتنقلن من زهرة الى أخرى، لا نلوي على شيء ولا يوقف حركتنا أي سبب. كانت أعمارنا تسمح بذلك حيث الأيام تسير ونحن نسير معها أيضاً، والمهم إن الوقتُ كان متاحاً والنقود تتدبر. ومع مرور الوقت صرنا نعرف كل التفاصيل المتعلقة بهذه المقاهي، من يأتي ومن يذهب، من المفلس ومن الذي تمتليء جيوبه بالنقود، من هي الجميلة التي ستأتي وحيدة، ومن هو المعجب بهذه أو لا يُطيقُ رؤية تلك. هكذا صارتْ العلاقات تتشعب وتتداخل، تتجمع مرة مثل حبات المسبحة، وتتفرق مرات مثل سحابة دخان. مرَّ الوقت سريعاً ولم نعد صغاراً كما في الماضي، وصارت العلاقات سريعة أيضاً ولا تستمر طويلاً، وفوق هذا كان من الصعب إيجاد علاقات جديدة. فصرنا نبحثُ هنا وهناك عن بعض الحلول، وكانت كلها مؤقتة لكنها تفي بالغرض، لكن مع مرور الوقت بدأت الأمور تسوء أكثر. فماذا سنفعل الآن؟ أيتوجب علينا الذهاب الى مدينة أخرى أم ربما ننتقل الى القرية المجاورة للتعرف على وجوه جديدة ونساء جديدات؟ هكذا تساءلنا ونحن نجتمع في زاوية أحد المقاهي. وبين هذه الأسئلة الكثيرة التي صارت تتقافز بيننا كل يوم، قفز أحد الأصدقاء متساءلاًً (ربما علينا أن نتزوج) ثم أردفَ (يجب أن نواجه الأمر الواقع بشجاعة، فلم نعد صبياناً صغاراً، وعلينا ان نفكر جدياً بالأمر) فإستغربَ الجميع غير مصدقين سماع ذلك، بل غير معترفين بهذه الحجة الضعيفة التي لا أساس لها من الصحة! وهنا إنبرى صديق نثق بخبرته، وكُنّا نوكل اليه دائماً إيجاد النبيذ الرخيص، وقالَ بنبرة واثقة وبعينين مفتوحتين (هناك مقهى صغيرة في منعطف الشارع الأخضر لم ينتبه اليها أحد، ولا يرغب بدخولها الكثيرون) وبعد صمت قليل حيث انشغلَ الجميع بجملة (لا يرغب بدخولها الكثيرون!) زادَ الطين بلَّة بقوله ( وهناك عائق كبير ربما سيمنعنا من الذهاب الى هناك) وهنا صاح الجميع (عائق؟ ماهو؟) وهنا انفتحت أسارير صاحبنا، فأكملَ حديثه (هذه المقهى يرتادها غالباً الأشخاص الوحيدين والغريبين، أو الذين انفصلوا عن علاقاتهم السابقة ويحملون بعض العُقد، وأكثر النساء هناك متوسطات العمر ولا يتمتعن بالجمال الكافي) بدءنا نتلفت نحو بعضنا. فيما أكمل هو موضحاً ومحاولاً التقليل من حجم الفجيعة (لكن كما تعرفون، فسلَّة الفاكهة التي تبدو (سيئة) من الخارج، يمكن أن تحمل حبات جيدة ولذيذة أيضاً) وهنا تم الاتفاق على الذهاب مباشرة الى هذه المقهى التي لا يهتم بها أحد، والتي أطلقنا عليها تسمية (الأمل الأخير) وهي كانت فعلاً أملنا في تكوين صداقات جديدة، لكن ما أن وصلنا الى هناك حتى تغير كل شيء وإنقلبت حياتنا رأساً على عقب، وبطريقة لم نتوقعها أبداً. في هذه المقهى التي أقف أمامها الآن بعد هذه السنوات الطويلة، تغير كل شيء، كل شيء الى الأبد. يتبع