اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > التّجديدات مابعد الحداثيّة

التّجديدات مابعد الحداثيّة

مقطع من الفصل السابع من كتاب (تطور الرواية الحديثة) تأليف البروفيسور جيسي ماتز - ترجمتي وتقديمي

نشر في: 16 إبريل, 2024: 11:15 م

لطفية الدليمي
أحدثت الطاقة الجديدة لرواية (الكومنولث Commonwealth) مفارقة صارخة مع ماكان يُوصف بلحظة (النضوب الأدبي)؛ ففي دول الكومنولث بدأ الكُتّاب يوظفون تجاربهم ويعتمدونها مصدراً لأشكال إبتكارية جديدة من الكتابة - الكتابة التي ستعمل في المقابل على تدعيم التغير الثقافي المطلوب في الوقت الذي واجه فيه الكُتاب خارج منطقة الكومنولث إحساساً عميقاً باللاجدوى وإستنفاد الغرض من الكتابة؛ لذا صار الإبتكار الكتابي لديهم مسألة لاغاية تُرتجى منها.
وصف جون بارث John Barth هذه الحالة في مقالته الموسومة (أدب النضوب The Literature of Exhaustion) (1967): لاحظ بارث في مقالته تلك أن التجريب الحديث الذي جعل الفن الروائي فعالية باعثة على الدهشة والأهمية بات يعمل من غير سبب واضح ومن غير أن تنتج عنه تأثيرات طيبة، وراح الكُتّاب ببساطة يدورون في فلك ذواتهم ويميلون إلى الفعاليات الإستعراضية، وعلى الرغم من إحتكامهم إلى الكثير من الحِيَل المُستحدثة لكنها بدت نوعاً من التجريب الهادف لإحداث صدمة أو دهشة أو نقل إحساس بشطارة الكاتب وليس أكثر من هذا. في المقابل كان ثمّة كتّاب آخرون يكتبون كما لو أن الحداثة لم تحلّ بعد؛ فكانت كتابتهم محض توصيفات تقليدية ومواقف تقليدية وفشلٍ كامل في ولوج عالم القرن العشرين، وهكذا بدا أن الأمور قد إنحدرت إلى إنتاج (أدب الإمكانيات المستنفدة) وإلى نوعٍ من (التقليد الخاص بالتمرّد ضد التقاليد القائمة). أين كان الكُتاب الذين في قدرتهم ممارسة التجريب الهادف،،، الذين يستطيعون بالفعل إمتاع الناس بإبتكاراتهم المدهشة، وفي الوقت ذاته بإيجاد المسلك الصحيح بين (الحيل المُستنفدَة) و (الكتابة التقليدية)؟ (1).
وجد بارث تلك المسالك المفتقدة في نهاية الأمر؛ فبعد عقدٍ من كتابته عن (أدب النضوب) كتب عن (أدب التجديد The Literature of Replenishment) معلناً أن الرواية أعادت ضخ بعض الحيوية في مهمتها التجريبية وإستعادت القدرة على الإرتقاء بأهداف الرواية الحديثة؛ ولكن بقي مستقبل الرواية الحديثة غير مؤكّد لأن تلك السنوات شهدت شيوع النزعة مابعد الحداثية Postmodernism: جلبت تلك النزعة إلى الميدان الروائي نوعاً جديداً متطرفاً من التجريب المقترن برؤية تشكيكية أكثر قسوة بكثير من تلك التي جاء بها المحدّثون الروائيون، كما جاءت النزعة مابعد الحداثية بتحدّ خطير لفكرة إمتلاك الرواية (أو أي عمل فنيّ) لأيّ تأثيرات أو نتائج ذات طبيعة خلاصية. بدا، أول الأمر، أن الحقبة مابعد الحداثية عنت نهاية الرواية الحديثة ولكنها إستحالت في نهاية الأمر (تجديداً) للرواية الحديثة، و بعد أن هدّدت هذه الحقبة بوضع نهاية للإيمان في المقدرة الروائية على تمثّل الواقع إنتهت في خاتمة الأمر لتكون ترياقاً لعلاج الكثير من المعضلات التي تُرِكت بلا حلول ناجعة منذ الأطوار المبكرة من نشأة الرواية الحديثة.
ماالعلامات المميزة للحظة (النضوب) التي بدا أنها رسمت بدايات النزعة مابعد الحداثية؟ ماكانت أسبابها؟ وكيف لعبت تأثيراتها أدواراً ملحوظة في إعادة تشكيل الرواية الحديثة إذا كانت الرواية مابعد الحداثية حقاً الوريث الشرعيّ لتلك الرواية كما يوحي بذلك عنوانها؟
ينبغي إستذكار حقيقة أن الرواية الحديثة نشأت وسط مجموعة خاصة من المشاعر المختلطة تقوم على أساس أن الرواية ينبغي أن تتعامل مع الحداثة الطاغية عبر التمثل الدرامي للحريات والمباهج التي جاءت بها تلك الحداثة، أو إنتقاد المعضلات التي تنشأ عنها كذلك، أو حتّى إنقاذ مابدت الحداثة ساعية سعياً جاداً لتحطيمه. آمن الكتّاب أنّ بمستطاع الرواية تغيير الطريقة التي يفكر بها الناس، وأنها تستطيع إعادة بعث الحيوية فيهم بإعتبارها (الكتاب المشرق للحياة)، وأنها تقدر على بعث النشوة التعاطف فيهم، وإستعادة القدرة على التعبير عن التعقيد الجمالي والأخلاقياتي في عوالم غدت باردة الروح بفعل طغيان التقنية والعقلنة والنزعة المادية. مثّلت النزعة التشكيكية إحدى أهم سمات الرواية الحديثة، وخدمت أيضاً في دعم المثاليات التي كانت تتطلع إليها الرواية الحديثة؛ لكن الأمر تغير تماماً وبطريقة تدريجية، كما رأينا في الفصول السابقة، بفعل الغليان السياسي والحماسة الفكرية للعقد الثلاثيني (من القرن العشرين)، ثم في عقابيل الحرب العالمية الثانية، وأخيراً مع حلول الحقبة مابعد الحداثية.
سادت الحقبة مابعد الحداثية عندما فقد الناس إيمانهم بالمثاليات السابقة - وأيّ مثاليات أخرى معها -؛ ومع أن ذلك الإيمان كان في طريقه المحتوم نحو التلاشي لكن بدت كل هياكل التفكير الإيجابي آيلةً للإنهيار مع مقدم الحقبة مابعد الحداثية: أخلت المبادئ المكان للنماذج Paradigms الفكرية العابرة، وأخلت اليقينيات المتبقية من عصر الحداثة المكان أمام النزعة النسبية Relativism الكاملة. وقفت أسبابٌ كثيرةٌ وراء هذا الإنقلاب؛ ولكن يمكن تعميم القول أن (الأشياء السوية والطيبة) التي إقترنت بالحداثة تغوّلت قدراتها التأثيرية وباتت قاسية لاترحم: التقنية باتت تعني القنبلة الذرية، والنزعة المادية إستحالت ثقافة إستهلاكية ذات طبيعة مفرطة في الجشع، والحضارة التي فقدت أغلب مصداقيتها في أعقاب الحرب العالمية الأولى صارت اليوم كذبة كبيرة وذريعة تُخفي شهية متغولة للسلطة، وبإختصار بدا كل ماكان مفيداً للحداثة وكأنه لم يعُد مفيداً، كما بدا واضحاً للعيان غياب أي أساسٍ يمكن إقامة هياكل من المعتقدات، والمشاعر الحقيقية، والطموحات القابلة للتحقق فوقه، وغدا فقدان الأسس بصورة رئيسية (و في الحقل الروائي بخاصة) سبباً في التوجه نحو أشكال) الميتاسرديات Metanarratives) وهو مايعني الفقدان الكامل لأي إيمان في الحكايات الكبرى التي كان الناس يميلون إلى إعتمادها في التفكير أو العيش أو العمل أو الشعور أو الكتابة(2).
غابت، إذن، السرديات الكبرى التي تعايش معها الناس لوقت طويل، وغابت مع تلك السرديات الأسس التي أقيمت عليها القيم التي لطالما إعتمدها الناس في حياتهم. إذا كنتَ أنت تشعر بهذا الغياب، مثلما فعل الكثير من الكُتّاب والمفكّرين، فأيُّ نوعٍ من الرواية يمكنك، أو ينبغي عليك، كتابتها؟ هل يمكنك، مع غياب السرديات الموجّهة والأسس المستقرة، أن تفعل مثلما فعل الروائيون الحداثيون من قبل؟ تعني هذه التساؤلات بكلام أكثر دقة: هل أنت مقتنعٌ بوجود ثمة نقطة ما يمكن إبتداءً منها الإنطلاق لإنجاز شيء جديد على أمل أن يُحدِث ذلك فرقاً ملحوظاً؟ ولكن قبل كلّ هذا: هل كان بوسع أي إمرئ أن يؤمن بإمكانية تخليق شيء جديد على الإطلاق يمكنه " أن يُحدِث فرقاً " حتى عندما تكون أسطورة " إحداث فرق بيّن " قد تمّ إبتذالها والسخرية منها؟
عنى (الإستنفاد) أو (النضوب) أيضاً أن كل شيء قد تمّ فعله ولم تعد ثمّة خيارات أخرى متاحة لفعله بطريقة أخرى، وبدا كل شيء واهناً باهتاً قابلاً للتنبؤ المسبق ومطروقاً، وحتى الأصالة إستحالت حلماً رومانسياً، أو - في حالات أكثر سوءً - صارت إستعراضاً جمالياً لاينشد خلق أشياء جديدة بل يبتغي المظهرية الخالصة وإستعراض مظاهر السطوة والسلطة، وباتت طموحات الفن الروائي في نشدان الجمال والمعنى والحكمة غطاءً كاذباً يخفي تحته أمراً آخر تماماً: الإمتيازات الأرستقراطية أو السياسية، وبدلاً عن إبتغاء الجمال بدا أن الفن يطمح لجعل الناس يوقنون بأن هؤلاء الممسكين بشؤون الثقافة يستحقون مواقعهم بجدارة فائقة لما يحوزونه من موهبة خاصة ومتفردة في الذائقة والإبداع والمعرفة.
الحقيقة، أيضاً، بدت مستنفدة؛ إذ لطالما إبتغى الروائيون الحداثيون مساءلتها: رؤية الأشياء من منظورات عدّة مختلفة، والتشكيك بالحكمة التقليدية، وحتى الإقتراح بأن الحقيقة ماكثة على الدوام خارج قدراتنا على الإحساس والمعرفة؛ ولكن حتّى أكثر الكُتّاب الحداثيين إغراقاً في النزعة التشكيكية رأى أن من الأفضل السعي نحو الحقيقة حيث تأسس كل البناء الروائي الحديث على القناعة الصارمة بأن قدرات الفن الروائي المحسّنة تعني إحتمالات أفضل في ملامسة الحقيقة؛ ولكن النزعة التشكيكية مابعد الحداثية دفعت الأمر أبعد من ذلك كثيراً بتأكيدها على عدم إمكانية ملامسة الحقيقة بأي حال من الأحوال، وفي حين تطلع الروائيون الحداثيون إلى النزعة الفورية المباشرة immediacy كانت الحقبة الروائية مابعد الحداثية راغبة في إثبات أن أقصى مايمكن ملامسته وتوظيفه في الفن الروائي هو الوساطة Mediation (الفكرية واللغوية) طالما لايوجد ثمة واقع بعيد عن متناول الفكر واللغة. عملت مابعد الحداثة على وضع مالايمكن عرضه في سياقٍ قابل للعرض فحسب، وأنكرت (السلوى أو العزاء الذي يمكن أن تجود به الأشكال الجيدة) التي كانت نقطة الشروع في الكتابة الحديثة من قبل(3)، وكل ماإستطاعت فعله هو (التمثيل الدرامي لثيمة عدم القدرة على إمتلاك إمكانية تفسير مقبولة للعالم)(4).
ماالذي تبقى إذن للرواية الحديثة؟ ماالشكل الذي ستكون عليه هذه الرواية بعد خسارتها إيمانها بالأصالة والفن والقدرة التمثيلية وإمكانية إجتراح الخير ونشدان السلوى والعزاء في الأشكال الروائية الجيدة؟ هل يمكن أن تستحيل الرواية الحديثة محض نص معبّر عن نزعة تشكيكية كلية وسلبية تماماً؟ وإذا لم يكن ثمة معنى مؤكد في العالم فهل سيكون من الأفضل الإكتفاء بالنظر إلى العالم على أنه لعبة كبيرة فحسب؟ وإذا لم يستطع المرء التعبير عن أي شيء في العالم فلِمَ لايجعل فشله في التعبير هذا موضوعاً صالحاً لما يبتغي الكتابة عنه؟ وإذا إستحال الفن وسيلة لدعم النوازع الأرستقراطية، فلِمَ لانطرحه أرضاً؟ وإذا لم يكن ثمة سبيلٌ للكتابة عن شيء أصيل، ألن يكون الأفضل الإكتفاء بإبداء السخرية ممّا هو كائنٌ؟
تمكّنت الرواية من الإستجابة إلى الحالة مابعد الحداثية عبر الطرق الأربع التالية: التسلية Play، المحاكاة الساخرة Parody، الإنعكاسية Reflectivity، التسطيح Deflation، وبدا أن هذه الميزات الأربع هي كل ماتبقى في خزين (أقرب للنضوب)، وإستحالت الرواية بذاتها مادة لحكاية الخيبات والخسرانات التي طالت الرواية ذاتها، ورغم أنها كانت تنشد المتعة لكنها بدت فارغة في نهاية الأمر وإبتغت فوق كل شيء تكبيل يد أية رؤية يمكن أن تتطلع بإتجاه المعنى والإيمان والحقيقة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram