TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > قلب بغداد والمسؤولية الاجتماعية: الدرس الذي تعلمنا إياه رابطة المصارف الخاصة

قلب بغداد والمسؤولية الاجتماعية: الدرس الذي تعلمنا إياه رابطة المصارف الخاصة

نشر في: 18 إبريل, 2024: 12:21 ص

خالد مطلك

غالبًا ما يُنظر إلى المركز التقليدي للمدينة القديمة على أنه الوصي الشرعي على هويتها المعمارية، ويجسد القيم التاريخية والجمالية والثقافية. لذلك فأن عملية إحياء المباني القديمة داخل مجال محدد يحتل موقع النواة، يعد أمر بالغ الأهمية في الحفاظ على استمرارية هذه الهوية. فمن الناحية الأكاديمية، يمكن فهم هكذا مبادرات من خلال عدسة "إعادة الاستخدام التكيّفي"، حيث يتم الحفاظ على الهياكل الأصلية، وتكييفها، وإعادة توظيفها بطريقة تحترم أهميتها التاريخية، مع عدم تجاهل الاستخدام الحالي، وهذا لا يتحقق إلا بالقدر، الذي تسمح به عافية تلك المباني وقابليتها الإنشائية.
في قلب بغداد المهمل، والذي جرى نسيانه، بل إهماله لعقود طويلة، تنطلق مبادرة تاريخية تنفذها "رابطة المصارف الخاصة العراقية" وضمن فريق العمل الكبير، هناك في الإشراف معماري بمستوى رفيع من التأهيل الأكاديمي، وغير ذلك، هو من المهمومين الحزينين على مدينتهم: المهندس محمد الصوفي، للمساهمة في بعث حياة جديدة في "السراي العثماني" الذي هو - مع التراث العباسي - أحد أهم تراثين معماريين، شكلا جوهر الطراز البغدادي في العمارة رغم ندرة ما بقي منهما. لذلك لا يهدف مشروع الإحياء هذا إلى استعادة قيمة عمرانية فحسب، بل يهدف أيضًا إلى غرس جو اجتماعي ينبض بالحياة في قلب بغداد.
إن السعي لصيانة وترميم الواجهات التقليدية، والحفاظ عليها مع تحديث بعض التصميمات الداخلية، يعكس مبادئ التجديد الحضري المستدام. كما تذهب جين جاكوبس في كتابها "الموت والحياة للمدن الأمريكية الكبرى" التي تؤكد على أهمية دمج التطورات الجديدة في النسيج الحضري الحالي، للحفاظ على هوية المجتمع المحلي واستمراريته.
بالطبع المشروع يتحرك في مساحة محدودة جغرافياً، بل ميكروكوبية قياساً لمساحة بغداد الشاسعة، لكن أهميته تنبع من أنه يمسك بالعصب الأكثر أهمية في هذه المدينة، التي تعرضت وتتعرض لتشوهات عمرانية أمية وجاهلة. فهو يساهم في تنشيط تلك الخميرة الضرورية، التي لا غنى عنها في إعادة الحياة لطابع "المدينة القديمة" ونسيجها السري، التي تنسى بغداد دائما أين هي تلك "المدينة القديمة" وأين هو وسطها، وفي أي نقطة جغرافية جرى قطع حبلها السري التاريخي. وبالتالي، نحن بصدد منطلق عمراني حقيقي وجوهري. ومن خلاله، وبعد امتداده إلى شارع المتنبي، ومن ثم نحو شارع الرشيد ومقترباته، نكون قد أعدنا اكتشاف مدينتا. نستطيع أن نقف عن أي نقطة في أطرافها، ونحن نشير إلى المركز بثقة صلبة، ذلك المركز الذي ندعوا أن يكون مكاناً عمرانياً مؤنسناً. يلبي الاحتياجات البشرية في خلق مساحة مؤانسة اجتماعية، ومجال للحركة غير الآلية. حيث يظهر الناس فيه على سجيتهم الإنسانية غير المتزاحمة مع ضجيج المركبات.
الأمر المهم في هذه المبادرة، والذي يشكل أهمية إضافية كبيرة، أنه يأتي من القطاع الخاص، من ممارسة غير ربحية في المدى المنظور كما تبدو لي، وهذا ما سيحفظ تاريخياً لرابطة المصارف الخاصة، التي أتمنى أن تواصل سعيها تراكمياً، لكي تعيد تعريف القطاع الخاص، ودوره في البناء من جهة، وتبقي على الأمل لدى البغداديين في مستقبل مدينتهم، من جهة ثانية. ذلك أن هوية المدينة وتراثها وكنوزها المعمارية، هي من شأن الأهالي بالدرجة الأساس. وأتذكر هنا مبادرة القطاع الخاص الإيطالي في إنقاذ مبنى الكولوسيوم من الانهيار بأموال مؤسسة خاصة كذلك. لذلك تقدم مشاركة القطاع الخاص، والتي تجسدها هذه الرابطة، نموذجاً فريداً للمسؤولية الاجتماعية للمؤسسات. ويعلمنا المشروع كيف يمكن توجيه الاستثمار الخاص إلى المنفعة العامة المباشرة، من خلال تنشيط المشاهد الحضرية، والمساهمة في التجديد الاقتصادي والاجتماعي. فعبر إحياء منطقة مهملة، لا يعمل المشروع على تعزيز البيئة المادية فحسب، بل يجدد أيضًا ثقة المجتمع في المبادرات المؤسسية الخاصة. وهذا أمر حيوي بشكل خاص في حالات ما بعد النزاعات، حيث تساهم إعادة بناء المساحات المادية بشكل كبير في شفاء المجتمعات. قد يكون هذا الكلام عمومياً، ومبالغ به بخصوص مشروع صغير، ولكن أحياء القلب، كما تعلمنا هو أول إجراء اسعاف أولي لأي مريض، بما في ذلك المدن، التي أرهقتها الحروب والنزاعات، فليس للأطراف حق الفخر من دون سريان الدورة الدموية للقلب.
يجادل المختصون بأن الحفاظ على المباني التاريخية، وإعادة استخدامها التكيفي، لا يتعلق فقط بالحفاظ على الهياكل المادية، ولكن أيضًا بالحفاظ على الذاكرة الثقافية والهوية، التي تجسدها هذه الهياكل (تاريخ الحفاظ على العمارة: جوكيلهتو). وتساهم هذه الممارسات في التنمية المستدامة للمدينة، حيث إنها تعزز الحفاظ على البيئة، والاستمرارية الثقافية، والفوائد الاقتصادية من خلال السياحة، وزيادة قيمة الممتلكات وصناعة فضاء رحيم للمارة.
علاوة على ذلك، فإن الحوار بين العناصر القديمة والجديدة، في هكذا مشاريع، يؤدي غالبًا إلى إعادة تصور الهوية المعمارية، التي تعكس احترام التقاليد والنظرة المصوبة نحو الحداثة بنفس الوقت. إذ لا يتم الحفاظ على الماضي في عزله فحسب، بل يتم دمجه بشكل فعال في النسيج الحي للحاضر، وبالتالي إثراء أهميته وحيويته المعاصرة، ومعاندة السيولة المفرطة في الكونكريت البليد والعدواني التي يطوقه.
يذهب جان غيل في كتابه الشهير "مدن للناس" إلى أن التصميم الحضري يجب أن يعطي الأولوية للاحتياجات البشرية على حركة مرور المركبات، التي يتم دمجها بشكل ما في المشروع. لذلك نمني أنفسنا بتصميم المساحات المتجددة في بغداد القديمة، لتشجيع المشي والتفاعلات الاجتماعية، عبر تخصيص ممرات للمشاة وساحات عامة تسهل المشاركة المجتمعية والحياة الحضرية المفعمة بالحيوية.
من هنا، ندعو القائمين على هذه المبادرة، بأن يمنح المشروع الأولوية للفضاء العام، التي يمكن الوصول إليه ولكي يكون جذاباً ومرحباً بالتجمعات الاجتماعية، وبالتالي تشجيع الناس على التواصل والمشاركة في الحياة المدنية.
إن قوة الهندسة المعمارية في التأثير على سلوك المجتمع، وتعزيز التفاعلات الاجتماعية، توفر إطارًا حاسمًا لفهم الآثار السيكولوجية لمستخدمي المدن، ومن هنا يأتي تركيز الرابطة في عملها على الهندسة المعمارية كعامل محفز للتغيير الاجتماعي، من خلال تحويل منطقة مهملة إلى مركز حضري مزدحم، ليس من خلال ترميم المباني فحسب، ولكنها تستهدف أيضًا روح الجماعة التي تستعمل المكان.
يؤدي إحياء المباني القديمة وظيفة الجسر غير المرئي بين الروايات التاريخية والحياة الحضرية المعاصرة. ولا تحافظ مثل هذه المشاريع على التراث المعماري فحسب، بل تضخ أيضًا حيوية جديدة في النسيج البصري، مما يساهم بشكل كبير في تصور ذهني غير معلن لهوية المدينة ووظائفها. فغالباً ما يجسد المركز التقليدي للمدينة القديمة الجوهر التاريخي والثقافي لها، مما يجعله عنصراً حاسماً في تحديد المشتركات الهوياتية الأوسع.
منطقة "السراي العثماني" التي احببناها من خلال النشيد الحزين غير المنقطع لأستاذنا خالد السلطاني، الذي طالما كشف عن جوهر المكان وقيمته الجمالية، يشهد هذه الأيام حركة دؤوبة في الشوارع الخلفية. تحاول جاهدة أن تحفظ ماء وجه العمارة البغدادية، عبر عملية جراحية معقدة لمريض شبه ميؤوس منه وتعيده للحياة ثانية.
بهذه المناسبة، يهمني أن أقدم اعتذراً متأخراً للمهندس علاء معن، إذ سبق لي وأن تحدثت، في مجال خاص، منتقداً الاحتفال بشارع المتنبي، كنت حينها لم أعرف أن المشروع، هو جزء من تصور أكبر لإحياء المركز. وبسماحته البغدادية، أتمنى أن يكون اعتذاري مقبولاً لديه. وينبع اعتذاري من حقيقة أننا نختلف في حب مدينتنا وطريقة كل منا في التعبير عن هذا الحب.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram