على خلفية مكالمة تلفونية
"لا أحتاج إليها". كانت هذه، في ظنّي، أهم جملة قالها لي رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني خلال المكالمة التلفونية التي بادر هو شخصياً بها أمس ليشكر عما كتبت في اليومين الماضيين وليوضّح... "لا أحتاج إليها" قالها بتلقائية وبلهجة صادقة.
أراد الرئيس بارزاني أن يؤكد مرة ثانية أن لا علاقة له من قريب أو بعيد بشريط الفيديو الذي تضمن أغنية تمتدحه، بل انه لم يكن يعلم بوجودها إلا عندما قرأ "شناشيل" أول من أمس، وقال انه ليس راغباً لا في الأغاني ولا في أي شكل من أشكال الثناء، وأكد بنبرة واثقة: "لا أحتاج إليها".
ماذا يعني ألاّ يحتاج الزعيم السياسي، وكل سياسي، إلى المديح الذي غالباً ما يأخذ في بلداننا أشكالاً فاقعة تدخل في باب التطبيل والتزمير؟ الجواب على هذا السؤال يكمن في الجواب على سؤال آخر: مَنْ مِن السياسيين يحتاج إلى هذا التطبيل والتزمير؟ بالتأكيد هو الذي لا يثق بنفسه.. هو الذي لا تاريخ له، وبالتحديد التاريخ المشرّف.. هو الذي يعرف في قرارة نفسه انه يفتقر إلى الموهبة والكفاءة والخبرة اللازمة.. هو الذي يدرك انه جاء إلى موقعه في غفلة من الزمن ومن الناس أيضاً.. هو الذي يعرف أن الآخرين يعرفون ما يعرفه عن نفسه، وانه بسبب ذلك ليس موضع احترامهم.
ثانية أقول إنني عندما كتبت عن شريط الفيديو الغنائي كنت أدرك أن السيد بارزاني لا يرغب في هذا النوع من الدعاية.. أدرك ذلك من لقاءاتي العديدة معه (الصحفية والشخصية والعامة) التي يرجع تاريخ أولها إلى منتصف الثمانينات من القرن الماضي، ومن علاقاتي مع العديد من المحيطين به. وقد خشيت عليه أن يُوضع في منزلق لا أرغبه له ولا لغيره من الزعماء في هذه البلاد التي لم تزل تعاني المحن والويلات بسبب الطغيان السياسي والنزعة الذاتية المفرطة لحكامها المتعاقبين.
النضال ضد ذلك الطغيان وتلك النزعة أخذ من أعمارنا، نحن الذين بقينا على قيد الحياة حتى الآن، عقوداً عديدة.. أخذ عمر الشباب كله. وفي نهايته وجدنا أن ذلك الطغيان وتلك النزعة قد أخذا من البلاد كل شيء.. ثرواتها وشبابها وكفاءاتها وحياتها وكرامتها ومستقبلها. لكننا ما زلنا هنا في بغداد في وضع يحتّم علينا أن نخوض نضالاً مماثلاً ضد انبثاق ذلك الطغيان من جديد وضد إعادة إنتاج تلك النزعة المدمرة.
لدينا هنا في بغداد معركة ضروس مع سياسيين من النوع الذي يرى انه يحتاج أمسّ الحاجة إلى الثناء والمديح والتزلف والتملق، فيشترون الذمم والضمائر بأموال المستشفيات المهملة والمدارس الآيلة أبنيتها للانهيار على رؤوس بناتنا وأبنائنا.. بأموال الزراعة المتدهورة والصناعة الخربانة.. بأموال الكهرباء التي صارت مأساة بحجم مآسي العراقيين الكبرى عبر التاريخ من الطوفان العظيم إلى كربلاء وخراب بغداد والأنفال والكيمياوي والمقابر الجماعية، والى الإرهاب الذي يسجّل كل يوم انتصاراً على دولتنا المُلفّقة.
شكرا كاك مسعود مرة أخرى.. شكراً لأنك تقرأ ما نكتب، ولأنك تتفاعل مع ما نكتب (يهمنا ألاّ ينشأ نظام تسلّطي في الإقليم الذي نريد له أن يكون مثالاً لإمكانية بناء الديمقراطية في البلاد)، وعسى أن تضرب زعماءنا في بغداد صاعقة الهداية ليقرأوا ما نكتب عن طغيانهم ونزعاتهم المدمرة وليتفاعلوا مع ما يقرأون وليدركوا انه انتهت منذ زمن بعيد عصور الآلهة المخلدة.