علي حسين كتب محمد أركون في مقدمة كتابه الشهير الفكر العربي إن "جميع المثقفين العرب يبحثون عن مساحات حرة، ولو كانت ضيقة ومؤقتة، يحملون في نفوسهم تاريخا شديد الوجع، وهم يعرفون أن الخلاص غير وشيك، هذا المثقف العربي لا يفهمه أهله في غالب الأحيان، مهمش، أو منبوذ، "
في باريس التي وصلها بداية الخمسينيات حاول الفتى الجزائري القادم من منطقة القبائل أن ينطلق في الآفاق الشاسعة التي اتسعت أمامه و كان كلما تقدم في سبل المعرفة، يكتشف سعة الهوة بين عالم القناعات البليدة والراسخة وعالم العقل الذي يعمل من أجله ويصبو إليه، كما لو أن عليه أن يجتاز قرونا في سنوات معدودة، إلى أن وقع ذات يوم على أبي حيان التوحيدي، "أخي الروحي والثقافي، المهمش في الدولة البويهية"،ليجد فيه القربى والسلوى، وانصهار الفكر في الإبداع، ويكتشف أوجه المثقف المتعددة، المؤمن والملحد، والفيلسوف والمؤرخ، ورجل الاقتصاد وعالم الاجتماع. كلها في هيئة رجل رث الثياب عاش قبل ألف عام، وصفه ياقوت الحموي في كتابه معجم الأدباء بأنه متفنن في جميع أنواع العلوم، فهو شيخ في الصوفية، وفيلسوف في الأدباء وأديب في الفلاسفة. أتأمل مؤلفات محمد أركون التي أخذت حيزا على الرف، وأسأل: هل كان يريد أن يقول لنا انه عاش غريبا؟، هل كان يريد أن يدلنا على نفسه؟ أليس هو الذي كتب عن كل شيء في الفكر العربي والإسلامي، ما هي المسألة الفكرية أو الاجتماعية أو المنهجية التي لم يمخر أركون عبابها؟ وكم فيه من خصال التوحيدي وحبه للعلم ثم الشقاء في سبيل الفضول والمعرفة؟ وأي عام هو العام الذي مر ولم يصدر فيه كتاب للرجل الجزائري الروح،الفرنسي الشكل؟ واسأل عن جديده فيخبرني صديقي علي عبد الهادي أن هناك كتابين ترجما حديثا لأركون وهما: "الأنسنة والإسلام"، و "نحو نقد العقل الإسلامي"، فالرجل وقد تجاوز الثمانين إلا أن فكره لا يزال متوقدا نعرف نحن قراؤه ان كاتبنا المفضل كان مريضاً، يكتب، ويتألم ويفكر. يرفض أن يترك قلمه قبل أن يترك دنياه، انه إصرار شيخه التوحيدي، العقل يجتهد حتى الرمق الأخير ليعطي الكثير من نفسه من أجل أن يحررنا من الرواسب.يكتب فوكو:" إحدى مزايا المفكر هي أنه لا خيار له سوى المزيد من المعرفة". المعرفة التي قادت أركون لان يحدث ثورة في الفكر الإسلامي و العربي طارحا السؤال الكبير: لماذا تخلى العرب والمسلمون عن سؤال العقل؟ "كم من مرة تكررت (أفلا تتدبرون) و (أفلا تعقلون) في القرآن؟ لكن هذا النوع من التفكير المتوسع تم تهميشه و ضيقت مجالاته ". كعادة الموتى يوغل أركون في الصمت.. لكن أي صمت لرجل ظل طوال خمسة عقود مالئ الحياة وشاغل الفكر،فهو حين يوغل في صمته فأن آثاره ومعاركه الفكرية وكتبه ودراساته وطلبته يوغلون في الحوار، وهم يحفظون بكل حب كلمات معلمهم وينتزعون منها طريقاً للمستقبل، ومهما تنوعت الأساليب التي استخدمها في التعبير عن آرائه وأفكاره،بقي عنده مقصد واحد جلي لم يمل عنه إطلاقا هو الوجود الإنساني وكما كان شيوخه الأوائل التوحيدي وابن مسكويه وابن رشد يسعون إلى أن يكونوا (حراس الحياة) في فلسفتهم سعى أركون إلى أن يكون (حارس المعرفة).
العمود الثامن :غربة التوحيدي
نشر في: 17 سبتمبر, 2010: 05:44 م