سعد محمد رحيمالجزء الأوللعل ما يُكسب كتاب فاطمة المحسن (تمثلات النهضة في ثقافة العراق الحديث/ دار الجمل 2010) أهميته هو أنه، حسب علمي، أول كتاب جامع يبحث بهذا القدر من العمق والشمول في مقدمات ونشوء ثقافة النهضة في العراق كما صيغ خطابها،
وكما تجسّدت في ممارسات ومؤسسات، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والعقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين. ويظهر جهد الباحثة المثمر في كم المصادر التي رجعت إليها، وفي فاعلية المنهج التحليلي النقدي الذي استخدمته، ومقدرتها الملموسة في الاستقراء والاستنباط، في آن معاً. إلى جانب جرأتها في بيان حدود ثقافة النهضة وتشخيص إشكالياتها بموضوعية عالية. ومن غير أن يشوب تقويمها وأحكامها آثار تحيزات إيديولوجية، أو أنها استطاعت بذكاء إخفاء مثل تلكم الآثار، وإن كان بالمستطاع الوقوع على قناعاتها وتصوراتها وأفكارها الخاصة عبر المسار الذي اختطته لبحثها والمنهج الذي توسلت به في قراءتها وتحليلها موضوعاتها الرئيسة التي يلخِّصها عنوان الكتاب.rnكانت استنتاجات الباحثة تتراوح بين الانطلاق من فكرة عامة تصوغها، أو تقتبسها بعد أن تحظى عندها بالقبول، ثم تذهب لتثبت ذلك (منطقياً) عبر حشد مجموعة من المقولات والوقائع المأخوذة مما قيل وجرى حقاً، عبر عملية استنباط دقيقة.. في سبيل المثال أن نعرف ما هي النهضة، أو من هو المثقف العراقي قبل التحري عمّا يؤكد ما طرحناه وتبنيناه؟. هنا ننتقل من العام إلى الخاص، وحيث النتيجة تكون مساوية أو أصغر من مقدماتها كما يقول المناطقة، وبين استقراء مجموعة من المقولات والوقائع المتلازمة التي تفضي (منطقياً) إلى فكرة عامة مجردة، حيث الصعود من الجزئيات إلى القانون العام في عملية استدلال يقودنا من الجزئي إلى الكلي من خلال الملاحظة أو وضع الفرضيات والتحقق منها وحيث النتيجة تكون أكبر من مقدماتها، كما في دراستها عن مفكري النهضة الرواد (محمود شكري الآلوسي وهبة الدين الشهرستاني والأب أنستاس الكرملي والرصافي والزهاوي ورفائيل بطي ومحمود أحمد السيد). لكنها، أي الباحثة، في أكثر الأحايين، كانت تفعل الأمرين معاً، في إطار تحليلي واسع كما في الفصل الخاص بالنهضة وأقنعة الأدب، حيث مكوث الثقافة في زمن الشعر. أو في تحليلها اللامع للتمدين وصراع القيم في عراق مطلع القرن العشرين. وكانت تدرس وتحلل مناهج التيارات القائمة نفسها ومناهج الباحثين متعقبة طرق اشتغالها، أو استعمالها، عندهم، ومدى التزامهم بها أو نكوصهم عنها. وما الذي يمكن أن ينعكس عن ذلك.. تقول، مثالاً، عن منهجية الثقافة التقليدية؛ "المعرفة في الثقافة التقليدية تصلح للبرهنة على صحة الاعتقاد الديني وقدرته على تفسير الوجود، وهذا ما يمكن أن نتلمسه في الأدبيات التي تقوم على تصوّر شكل النظام السياسي أو العمران أو تفسير الظواهر الطبيعية والأخلاقية، أو صياغة التوجيهات أو الفتاوى، ولكننا قد نجد عند نفس المؤلف الذي يكتب وفق هذه التوجهات، بعض الاختراقات التي تنطوي على تصدعات في منهج المعرفة ذاته، وهذا ما كان يشكل بوادر، أو بوابات صغيرة، لدخول الأفكار الجديدة" ص89ـ90.وما وَسِعها، كانت الباحثة تتحرى، في مجرى صراعات الأفكار والرؤى، عن تباينات هذه الأفكار والرؤى وتعارضاتها مثلما طُرحت من قبل معتنقيها، أي أنها كانت تستشهد برأي شخص أو فئة وتناقشه في مقابل رأي نقيض أو مختلف لشخص آخر أو فئة أخرى، وتقتفي آثارها في الفضاءات الثقافية والاجتماعية والسياسية، في سياق جدل تنظيري، أو في إطار بلاغة نظرية استدلالية متناغمة عمادها الطباق، فكانت تعي، تماماً، أن واقعاً مركّباً لا يُفهم إلاّ من خلال منهج مركّب. حددت الكاتبة، إذن، نطاق بحثها الزماني بالنصف الثاني من القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين، ونطاقها المكاني بولايات العراق التاريخية؛ بغداد والموصل والبصرة، ومن ثم بالإطار الجيوسياسي الجديد بعد توحيد هذه الولايات تحت حكم الملك الهاشمي فيصل الأول في دولة العراق الحديثة (1921). ذلك أن "الثقافة المدينية لم تبدأ في العراق بعد الاحتلال البريطاني، فقد شهد العهد العثماني المتأخر نواتات نشوء مجتمع في كل من بغداد والبصرة والموصل، من الموظفين والتجار والعسكريين والمتعلمين والمتصلين بالحياة الغربية، سواء أكانوا مسلمين أم يهوداً أم مسيحيين، ومنهم تشكلت فعالية المؤسسات الحديثة والدوائر الرسمية وما رافقها من مظاهر البيروقراطية. أي أن ما يمكن أن نطلق عليه بدايات التمدين حدث في فترة لم يكن العراق بعد كياناً موحداً ولا دولة مستقلة" ص288. وقد ركزت الباحثة على ما أصابت العاصمة بغداد تحديداً، من تحوّلات في الثقافة بعدِّها مجالاً إبداعياً ومعرفياً وقيمياً واعتقادياً، مع إشارات مقتضبة لما حدثت في بقية مناطق العراق لأن أغلب رواد النهضة ودعاة التنوير والتحديث إمّا كانوا من أهالي بغداد أو أنهم تركوا مدنهم والتجأوا إلى العاصمة.اعتمدت الباحثة طقماً من المفاهيم المتداولة في حقول معرفية متعددة راحت توالف بينها لتعزيز منهجها. وفي موضوعة معقدة متشعبة كالتي تناولتها ف
تمثلات النهضة ..المنهج والمفاهيم وحدود البحث
نشر في: 18 سبتمبر, 2010: 06:37 م