علي حسين دائما ما تواجه بهذا السؤال " ماالكتاب الذي اثر في حياتك ودفعك لان تصبح كاتبا " كان حسين مردان صبيا معدما تخلى عنه والده، فقرر ان يصنع من نفسه شيئا، مارس جميع المهن والحرف، وتعرض لشتى انواع المصاعب، احتضنته السجون في صباه، لكنه لم يتخل عن حلم واحد، ان يصبح شاعرا.
كيف تحول الصبي الصغير الى واحد من اهم الشعراء العرب؟ كانت مكتبة المدرسة في قضاء الخالص تحوي على كتب بعدد اصابع اليدين، لم يجرؤ احد على الاقتراب منها، في ذلك اليوم يتقدم الصبي حسين مردان لاستعارة كتاب وكان قصة عنترة بن شداد،يقرأ صفحات منها ببطء شديد لايريدها ان تنتهي " شعرت انني اشبه هذا الصبي الاسود وادركت انني الان سانتقل الى حياة جديدة " وهكذا بدأت مسيرة ادبية طويلة. في السابعة عشر من عمره حمل عصاه وجاء الى بغداد، المدينة الغامضة المغلقة وبعد يومين فقط دخل الفراغ الى جيبه. انها لمصيبة ان تواجه العالم كله بقلب لم يمتلئ بعد. وذهب مع شروق الشمس الى سوق (الفضل) ليصبح من عمال البناء "كنت اقول لنفسي وانا اضع الطابوق على صدري ليكن! سأضع رجلي فوق الجميع." وبعد ايام يجلس مع الرصافي ليتحدثا عن الشعر والفكروالحياة "كانت الهيبة ترتسم على حاجبيه ولكني لم اشعر بالرهبة، أني كنت انظر الى نفسي باعتزاز "في بغداد بدأ يبحث عن الاسئلة التي تؤرقه فيجد اجابات لها في الكتب على اختلافها ما بين الفلسفة المادية والكتاب المقدس. قرأ كل شيء. وكان يستعير من الأدباء "الرزمة" بعد "الرزمة". حين صدرت مجلة "الكاتب المصري" وكتب فيها طه حسين ولويس عوض وبدوي عن الوجودية هام بها وفهمها على طرازه الخاص وعد نفسه وجودياً. ثم لما وصلت اليه بضع قصائد مترجمة من"أزهار الشر"لبودلير تمكنت من فكره ووجد نفسه في بودلير فأعلن نفسه بودليرياً.كان بودلير قد حمل ذلك الديوان الى احد دور النشر التي امتنعت عن نشره، فليبحث عن ناشر آخر، يجده في احدى زوايا باريس ليظهر الديوان الى العلن عام 1857 والشاعر يمني النفس ان يصبح بين ليلة وضحاها مثل لامارتين وروسو ومارسية الا ان قرارا كان ينتظره بمصادرة الديوان وحظر طبعه ونشره لما احتواه من خروج على الاعراف ودعوة للاباحية.لكن بودلير الذي قال لامه ان" اشعاري ستأخذ مكانها يوما إلى جانب دواوين بايرون وهيغو" تحول الى اسطورة في الشعر العالمي عاما بعد عام وجميع الذين رفضوا قصائده صارو يتباهون بانهم عرفوه في يوم من الايام. لم يكن حسين مردان هو الوحيد الذي تأثر ببودلير،لكنه الوحيد الذي تجرأ ان يكتب على غلاف ديوانه الاول قصائد عارية " ايها القارئ ثق أن لا تفضلني على الرغم من قذارتي إلا بشيء واحد..هو أني أحيا عارياً بينما تحيا ساتراً ذاتك بألف قناع. فنصيحة مني أن لا تقدم على قراءة هذا الديوان إذا كنت تخشى حقيقتك وتخاف رؤية الحيوان الرابض في أعماقك". كان حسين مردان مزيجا من شاعر يكتب قصائد غزل ومن حالم مضحك يتمنى ان يصبح مثل شهريار، ولكن سيظل من النادر ان يعرف العراق شاعرا بعذوبة شاعريته ولايمكن ان يعرف حالما مثله.
العمود الثامن ..ايها القارئ..لاتقترب
نشر في: 22 سبتمبر, 2010: 05:14 م