TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > كاذب وأعمى ومغفل

كاذب وأعمى ومغفل

نشر في: 28 نوفمبر, 2012: 08:00 م

التاريخ كذبة، أُذكِّر نفسي بهذه الحقيقة كلما حاوَلَت أن تهرول بي تجاه جهة من بين جهات تتصارع، أو ساتر من بين سواتر تتقاتل.. التاريخ كذبة لأنه لم يسرد الوقائع يوماً، بل وجهة نظر أحد مراقبي هذه الوقائع، أو بعضهم في أحسن الأحول. أما الوقائع نفسها، فهو أعْجَزُ من أن يستطيع رؤيتها.. وهذا ما يدفعني إلى القول بأن التاريخ أعمى أيضاً، لأنه لم يمتلك يوماً عينين مستقلتين يستطيع بهما أن يشاهد الأحداث التي يهتم بتسجيلها. التاريخ دائماً يستعير عيون المراقبين النافذين أو المؤثرين.

لكن ليس المهم أن التاريخ كاذب وهو ينتقي وجهة نظر واحدة من بين كثيرات، ولا المهم أن التاريخ أعمى وهو يعجز عن رؤية الواقعة كما هي مستعيراً عيون مراقبيها. بل المهم أن التاريخ مغفلٌ أيضاً، مغفل لأنه لم يدرك يوماً بأن ليست هناك واقعة واحدة في الحقيقة، بل مجموعة وقائع، مجموعة أحداث يوحدها ميدان واحد. كما هو الحال، مثلاً، في أي جريمة قتل تنحلُّ إلى واقعتين؛ واقعة القتل، وواقعة الموت، وهما واقعتان منفصلتان، لكن التاريخ يسجل أحدهما فقط، جاعلاً من واقعة الموت هامشاً على واقعة القتل أو العكس.. أنا هنا لا أقصد أن الواقعة تتعدد بتعدد وجهات نظر مراقبيها، لا، بل الواقعة تتعدد بحسب تعدد المشاركين بها، من ضحاياها أو أبطال.

كان قد لفت النظر إلى هذا الموضوع علي شريعتي، لكن بصورة غير مباشرة، وذلك عندما زار اهرامات مصر وانشغل هناك بقبور العمال متجاهلاً حديث الدليل السياحي عن عظمة الفراعنة الذين بنوا تلك الاهرامات. جلس شريعتي عند قبور العمال الذين أتت عليهم عملية البناء الجبارة في محاولة للتكفير عن جريمة تعالي التاريخ عليهم. فالتاريخ سَجَّل واقعة البناء فقط، معتبراً أن مذابح العمال، حدث عرضي لا يستحق الخلود. وهذا ما نفعله جميعاً عندما نسرد قصة البطل فقط ونتناسى قصص ضحاياه المجهولين، وفي هذا السرد المتحيز، تجن كبير، وعدم حياد، وتعسف. كل حادثة قتل لجندي أو موت لعامل، هي واقعة مستقلة تستطيع أن تسرد لنا حكاية لا تشبه أبداً هذا الذي ثرثر عنه التاريخ. المذابح التي حدثت بسبب جنون القادة في الحربين العالميتين، مذابح مخيفة، فكيف لم يملك التاريخ عيوناً تستطيع رصد تفاصيلها؟ بفضله نعرف تفاصيل كثيرة عن هتلر وموسوليني وتشرشل، لكننا لا نعرف أي شيء عن آلاف الجنود الذين قضوا في الأفعال الطائشة لهؤلاء، والسبب أن التاريخ أعمى ولا يستطيع رصد كل الوقائع، بل واحدة منها فقط، هي تلك التي يعتقد بأنها متن يستحق الخلود، أما بقية الوقائع فلا يستطيع رؤيتها لأنها هامشية بالنسبة له، فأي أعمى ومتعالٍ هذا الذي نوليه ثقتنا دائماً؟!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض اربيل للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: نور زهير ياباني !!

العمود الثامن: البابا فرنسيس وعقدة ساكو

العدالة الدولية تحت المطرقة

22 عاماً بين "جمهورية الخوف" و"دولة المافيا"

العمود الثامن: درس بارزاني

العمود الثامن: حقا إنها مؤامرة!!

 علي حسين في بعض الاحيان يرسل لي بعض القراء الأعزاء رسائل يؤنبون فيها "جنابي" لأنني أثير حالة من الكآبة والسواداوية في مقالاتي، وهم يلومونني لأنني أستغل هامش الحرية وأسخر من السياسيين والمسؤولين الذين...
علي حسين

كلاكيت: القاموس.. الرواية والفيلم

 علاء المفرجي في فيلم (الاستاذ والمجنون) 2018 وهو من أفلام السيرة الذاتية، للمخرج الأميركي من أصل إيراني فيرهاد سافينيا والمعد عن كتاب بالنوان نفسه، صدر عام 1999، للبريطاني سيمون وينشستر، نتابع قصة قاموس...
علاء المفرجي

(50) عاماً على الحرب الأهلية اللبنانية حياة بين قذيفتين

زهير الجزائري (5) نفير عام! لم نسمع الصوت الأجشّ البارد الذي أمر المدافع بأن تدوّي، ولم نرَ الفارس الذي قطع السهوب لينذرنا: نفير عام! النذير استحال إلى رسائل مشفّرة تخرج من أجهزة الإرسال، تمر...
زهير الجزائري

جِماح الطّائفية.. إلى نوويّة شيعيَّة وسُنيَّة!

رشيد الخيون ما كان في الخاطر ظهور مثقفين، تجمَحَ بهم الطّائفيَّة إلى تسمِّية القنابل النَّوويَّة بالأديان والمذاهب، توصلوا إلى هذه الأفكار الجهنميَّة بعد الحديث عن نِفطٍ شِيعيٍّ وماءٍ سُنيٍّ، فعندهم الأوطان مؤامرات على الطَّوائف،...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram