لطفية الدليميأدب الرسائل  غائب عن مشهدنا الثقافي لأننا  أناس جوانيون نخشى البوح  والمصارحة ونصمت عن تجاربنا الغنية تحاشيا لقسوة الأحكام المجتمعية.. وكم  تغوينا كتب الرسائل والمذكرات وكتب السيرة ،كونها تشع بالأسرار و تنضح بوحا  حميما لإنسان  مجهول يقودنا في دروب  محرمة  قد لا يتاح لنا ارتيادها ويرينا ما يذكي  لذة القراءة  بإشباع فضولنا البشري ،
 يؤجج رغبتنا في  كشف  صفحات مغيبة من تاريخنا، تزلزل  قناعات راسخة او تعزز سواها ،وتمضي بنا بعض  كتب  الرسائل في  مسارات  تبدو أليفة لفرط اعتياديتها  وقربها من حياتنا فنغفل عنها غالبا بل إننا قد لا نعتد بها لأنها تشكل تفصيلا من يومياتنا  العابرة .. وكتاب (رسائل سيريل بورتر – العراق بين حربين عالميتين) الذي حررته وترجمته الى العربية ابنته الباحثة والمترجمة  (أمل بورتر) - هو بحق  من هذه الكتب  المثيرة  التي يشغف بها القارئ من صفحاتها الأولى فهي ذات مستويات متعددة مفعمة  بحيوية العيش  بين  الثراء  الوافد والشغف  بالنساء  واغتراف المتع  من جهة ، والعمل في تأسيس دولة  حديثة تكون مصدرا لثروات الإمبراطورية البريطانية  على أرض العراق القديمة فوق ركام التركة العثمانية  وحطام البلد ، يثير هذا الكتاب  الممتع مخيلتنا و يدفعنا  الى تقصي  الأسرار المتوارية  خلف الحيادية  الصارمة والدقة المتناهية في تصوير الحياة من وجهة نظر الغريب  في حواراته العائلية ووصفه التفصيلي لعلاقاته بالعراقيين  في مابين الحربين العالميتين -  ويغري فضولنا انبهاره بجمال وقوة المرأة العراقية ويدفعنا الى تأمل  ما خفي عنا من خصوصية تتمتع بها بلادنا  لا يراها سوى الأغراب الأباعد وهم  يكتشفون سحرا غيبّه  اعتيادنا عليها .. الكتاب، رسائل بين المهندس البريطاني سيريل بورتر وأخته دورا المقيمة مع أسرته في مدينة بنكلور الهندية  وتنطوي هذه الرسائل على قدرٍ هائلٍ من المعلومات ذات  القيمة  التاريخية والاجتماعية  والمعرفية ، وتكشف لنا طرائق  الاستعمار الأوروبي  ورؤيته  البراغماتية  وعمله   في تنصيب الملوك وتحويل الأصقاع البكر الى  مناجم  ثروات  لرجال الحملة العسكرية ورديفها  المدني  من مهندسين  وباحثين يعززون  سلطة هذه الحملات  ويضرمون  اللهب في اراضي المستعمرات ويخلقون  دولا هشة عرضة للصراعات  بقدر استغراقها في الآمال الكبيرة ورغبتها بالتحديث الذي سيتقاطع مع إرث قبلي وإقطاعي راسخ.. تخالط رؤية  سيريل بورتر الشاعرية و شغفه العارم  بالجمال ، نزعة إنسانية تتضارب  مع  النزعة الامبريالية لخطاب الجنرال مود فاتح بغداد الذي ادعى تحريرها ( عزيزتي دورا، بعد مسيرة طويلة عقب إنزالنا من الدوبة ، وصلنا مدينة يسمونها بغداد لابد انك سمعت عنها فلا معلومة تخفى عليك يا دورا ، لا أتمنى أن تكوني معي فالحياة هنا مزرية  تماما ولكنها مثيرة حقا لقد دخلت قواتنا مدينة بغداد في يوم 11 آذار وبذلك قطع الى الأبد حلم سكة حديد بغداد –برلين  .بغداد أصبحت لنا من دون منازع ، كلمة الجنرال مود  كانت مؤثرة ،وأجتمع الناس حوله ولكن بنوع من التهيب والتردد والشك وانا ايضا اشك في حسن نواياه أو نوايا الإمبراطورية ، ألم ندخل في تجارة شركة الهند الشرقية وبعد ذلك أصبح لنا حكومة ال (راج) ..ويمضي في وصف الحياة البغدادية والعادات وطرز العمارة ووسائط النقل  وانواع الثياب والأسواق  وطموح بريطانيا لربط العراق بأوروبا عن طريق تركيا وسوريا  للوصول بغمضة عين الى المتوسط  ويتحدث عن صراع الشركات الأوروبية للحصول على العطاءات في ارض الثروات الجديدة  ويقول (انا هنا اضارب بخبراتي واحصل دائما على افضل العروض).ويتحدث عن (الخاتون  جرترود بيل)  صانعة الملوك  التي  يكره فيها عجرفتها الارستقراطية ونظرتها المتعالية للناس.. تزوج  سيريل بورتر  مرتين من سيدتين عراقيتين مسيحيتين ثانيتهما هي والدة المحققة والمترجمة الباحثة (أمل بورتر)  وتعززت حياته في بغداد ( انا اعايش عملية خلق بلد بكامله من الناس الى البنية التحتية والفوقية والنظام والادارة وكل شيء وهذا وحده مثير جدا اذ يجد الانسان نفسه شاهدا على عملية خلق امة او انبعاثها  كما يريد اهل البلد وصفها ..) رسائل ممتعة وجريئة كشف فيها سيريل بورتر عن نظرة الغريب الى بلاد نا في عصر محتدم.