ما أن ينتهي نطام حكم في العالم العربي، ويحل بدله نظام حكم جديد، حتى تعلو نغمة "المظلومية". كل فئة من الفئات تزايد على الأخرى بمقدار ما تعرضت له من ظلم. هذه تقول أنا مظلومة النظام السابق، وتلك تقول أنها ظلمت أكثر، وثالثة تزعم أنها الأشد مظلومية.
وتتحول "المظلومية" الى مجموعة شهادات: شهادة حسن أخلاق، وشهادة كفاءة، واستحقاق، وتميز أو بالأحرى تمييز. يصبح شعار النظام الجديد: المظلوم أولى. ويتحول التعرض للظلم الى مقياس افضلية في كل شيء، من أكبر الى أصغر الأعمال.
ولنفترض جدلا بأن شخصا ما حبس في نظام صدام ظلما وعدوانا، كما جرت العادة وسار العرف في ذلك العهد، لمدة عشر سنوات، قطع خلالها عن العالم، وتعرض لمختلف أنواع الإذلال، المادي والمعنوي، من تعذيب وإهانات وبؤس. ماذا يمكن أن تكون حصيلة ذلك الشخص الأخلاقية والعلمية؟ ماذا سيكتسب وماذا سيتعلم؟
لاشيء ذو قيمة. على العكس فإنه يكون قد تراجع على كل الصعد. فهو لم يكن في هارفرد أو أوكسفورد، وانما في سجن من سجون صدام، أي في بيئة اجرامية خالصة، وفي وسط عذابات شديدة ومعاناة متطرفة. وكنتيجة لكل تلك الظروف قد يتخرج من السجن ناقما، حاقدا، قاسيا، أو مريضا فاقدا للسوية. وهو سيكون في هذه الحال خطِرا، خاصة اذا لم يجد العدالة اللازمة لإنصافه ممن تسببوا له بذلك الظلم، والرعاية الواجبة له من الدولة كمريض، والتعويض المفروض والممكن له عما لحق به من خسائر. وبعض الخسائر، للأسف، لا يعوَّض.
ان الظلم المعمم هو تدمير الحاضر والمستقبل، فهو يصنع بيئة صالحة لانتاج واعادة انتاج الإجرام. وقد اخترعت البشرية في العقود الأخيرة نظاما لمثل هذه الحالات،عرف باسم "العدالة الانتقالية". وسارت عليه بلدان عديدة اشهرها جنوب أفريقيا بعد تحولها من العنصرية الى الديمقراطية. وظيفة هذا النظام الأساسية هي تطهير المجتمع من الدمار الذي تسببه حكومات قاسية أو حروب أهلية، ونقله من حال استثنائية الى أخرى طبيعية. وأكثر الأشياء مدعاة للتطهير بمثل هذه الأحوال هو ذلك الشعور بالإجحاف الذي يهيمن على المظلومين. فليست هناك صحة من أي نوع في مجتمع يسوده الشعور بالظلم.
إن صحة التحول من حكم سيء أو وضع سيء الى آخر مرتبطة بإنهاء شعور المواطنين بالظلم، وليس التغني بما أصابهم من ظلم، أو اعتباره مقياسا يتميزون به عن بقية المواطنين، ويستفيدون منه أكثر من غيرهم. فمثل هذا المقياس سيكون سببا في ظلم آخرين، شأنه شأن أي تمييز في المعاملة على اساس العرق أو المذهب أو الطبقة او ..الظلم.
وعادة ما تكون البلدان المجهَدة في مراحل التحول محتاجة أكثر من البلدان المرتاحة الى الكفاءات، والى "وضع الشخص المناسب في المكان المناسب"، من أجل اعادة البناء والإعمار. فالأكفاء هم من ينبغي أن يكونوا أبطال مثل هذه المرحلة وليس الذين تسبب ظلمهم بتعويقهم في التعليم والخبرة والكفاءة، لأن هؤلاء هم أنفسهم بحاجة الى اعادة بناء وإعمار.
ولكن الأمور غالبا ما جرت بشكل مقلوب في العالم العربي، حيث أصبح "المظلوم" هو بطل التحول، وقائد التغيير، بصرف النظر عن شروط الاستحقاق والكفاءة. وهو ما يجعل المظلوم الفاقد لهذه الشروط ظالما وسارقا ومعتديا، لأنه يأخذ في هذه الحالة مكانا ليس له، ويستحقه غيره. وقديما قالت العرب "احذروا ظلم المظلوم". وانظروا ماذا فعل المظلومون بشعوبهم بعد أن أصبحوا حكاما. وقائمة هذا الصنف من الحكام طويلة.