ما ان تستحسن موقفا لرجل دين حتى تنهال عليك الاتهامات. هذا يقول: اشتقت لماضيك؟ وذاك يكتب: انت عميل رخيص. وثالث يردد: وين عقلك؟ وقد لاحقتني اتهامات اخذ الرشوة كثيرا هذه الايام وقلت للاصدقاء: لو تورطت يوما برشوة من بضعة احزاب متهم بالانحياز لها، فلن تجدوني اكتب في السياسة ولن اشتري دارا ولا عقارا. سآخذ المبلغ واتجول خمسة اعوام على الشواطئ الجميلة التي حدثتني عنها امي في حكايات ما قبل النوم، لأنقطع عن عالمنا هذا تماما.
وفي حكايات ما قبل النوم ايضا، كنت مثل الجميع احب ان استيقظ فأجد كل الكائنات تفكر مثلي وتعتنق تفسيراتي للكون والتاريخ، ولا يزال البشر يتقاتلون لاخضاع خصومهم العقائديين، ولكن وبعد ملايين الحروب عبر التاريخ، اكتشف الانسان ان الاختلاف قانون قسري، وان الحل ليس في ان نتشابه، فلجأ المؤسسون للحضارة المعاصرة الى تطوير آليات التعايش وامتلكوا مدنا عظيمة يعيش فيها بكرامة معتنقو اكثر الافكار غرابة. فالحرب لم تعد تنشب بين متحضر ومتحضر، وحين ترى دخان معركة فتش عن متخلف اشعلها وسد باب "اخلاق التفاوض".
وفي حكايات اليقظة فإن لإسلاميي العراق جمهورهم ومؤسساتهم التي لن تختفي ابدا، ولانهم جزء من شعبنا واهلنا، ولانهم سيظلون موجودين فترة طويلة لا حد لها، فليس امامهم وامامنا سوى ان نتعلم كيف نعيش مع بعض. وهنا سيحتاج الاسلاميون ان يكتشفوا فينا عناصر خير تقنعهم بالتعايش مع المختلف ثقافيا، وهو نفس ما نحتاج اليه كعلمانيين بالضبط. والنقطة التي اشرت اليها قبل ايام في مقال "الاقلية الاسلامية المعتدلة" ستكتسب اهمية وستحظى بفهم اكبر في المستقبل، وهذا حكم العولمة وقضاؤها وقدرها الذي لا راد له.
وعلى سبيل المثال فإن ما يجري في مصر امر عظيم لكنه لن يقضي على الاخوان، بل يسود وجه مستقبل مرسي وجيله وطاقمه، ويمنح الاخوان فرصة المراجعة، ويتيح لاسلاميي المنطقة فرصة ان يسدوا ثغرة التشدد بشيء من حكمة العصر.
وفي ايران الخميني الاولى ظهر شباب غاية في التشدد، وكان بعضهم يحاصر سفارة امريكا عام ٧٩ ويريد تقطيع الدبلوماسيين بأسنانه، وبعد ان اصبح التشدد امرا لا يطاق وتعرض لتعرية كشفت مثالبه، تحول جزء مهم من هؤلاء الى نخبة تبنت وعيا جديدا وراحت تعيد النظر في مقولات التشدد وتؤسس مفهوما ايرانيا للمجتمع المدني انتج لنا حركة خاتمي الخضراء التي ترسم املا كبيرا.
هل من العيب ان نحلم ان يتحول بعض شبابنا المتشددين، الى الاعتدال شيئا فشيئا، وان نشجعهم بمبادرات تصدر منا كعلمانيين، لتضع نواة تفاهم وطني غائب؟
ان حلم ان يختفي خصومنا الايديولوجيون مستحيل. لكن الحلم المعقول هو ان تكون بلادنا محظوظة ونتعلم نحن وهم من اخطائنا، ونتجه لمثابة اعتدال ونقطة التقاء.
وفي توصيف لمشهدنا السياسي، تقف البلاد عند مفترق طرق رهيب. اهل الرمادي والموصل قلقون من محاولة السلطان اخضاعهم بالقوة. وقلق كردستان مماثل ويتعاظم. ولدى ليبراليي الشيعة ومعتدليها خوف مماثل. ونحن امام سيناريو خطير هو ان ينجح السلطان في حشد كل الشيعة وهم اهلي وجماعتي، ضد كل السنة والاكراد وهم اهلنا جميعا. وان يستقوي خارقا دستور التعددية، على معارضيه في الكتلة الشيعية وعلى معتدلين كثيرين في حزب الدعوة نفسه. اما السيناريو الاخر فهو ان ينجح اسلاميو الشيعة انفسهم قبل كل طرف اخر، في رسم مسار جديد للمستقبل يغاير مستقبل السياسات التي ينتهجها سلطاننا.
هل تقرؤون المقالات التي يكتبها الزعيم الشيعي عادل عبد المهدي والرؤى الذكية التي يطرحها زعيم اخر في كتلة التحالف هو احمد الجلبي؟ انها امور ستلعب دورا حاسما في مسار المراجعة لمنع ظهور الفرد المطلق في الحكم ولاعادة النظر في اخطاء العلاقات الوطنية. وليس هذا بجديد على كلا الرجلين، لكن الجديد هو تلك الكلمات الشجاعة التي سمعناها مرارا من عمار الحكيم رئيس المجلس الاعلى خاصة في عامي ٢٠١٠ و٢٠١١، والتي نأمل ان نعود لسماعها بشكل اكثر تأثيرا. والجديد هو طريقة اداء شباب مثل رجل الدين صباح الساعدي، ومثل مواقف التيار الصدري الشجاعة.. الشباب الذين تعلموا كثيرا من تجربتهم وتركوا العديد من المواقف المتشددة وباتوا صوتا ضد الانتهاكات الحكومية. وذروة احتجاجهم الذي يخدم التصالح الوطني، بيان زعيم التيار مقتدى الصدر المنشور مساء الاربعاء، والذي اتفق فيه مع معظم النخبة العلمانية بقول صريح ليس فيه نكهة خداع، لانه على طريقة ال الصدر كلهم "كلام واضح شجاع حد التهور" وصف دبابات المالكي بأنها مهددة للسلم الاهلي وانها طريقة لجعل الشعب ينسى هفوات عظيمة وفسادا كبيرا لفريق رئيس الحكومة.
نحن امام مشهد معبر، فالعلمانية والتيار الديني واصوات معتدلة في حزب الدعوة نفسه، لديهم موقف مشترك في نقد تفرعن السلطان. وهو اشتراك عابر للمكونات، تؤثر عليه الانقسامات، ولكن تعززه مخاوف على المستقبل بحجم الوطن. وهذه الشراكة النادرة لن تكبح جماح الاستبداد وحسب، بل في وسعها حماية تعددية المجتمع سياسيا ثم ثقافيا. هذه نقطة ضوء تمثل المدخل الشرعي للديمقراطية وللمجتمع الحديث. انه دوري كي اسأل الان: وين عقلك؟
جميع التعليقات 1
صفاء
اضحكتني كثير ايها الطائي وانت تستشهد بوطنيه القتله والسراق وهم في نظرك وطنيون مجرد لانهم على خلاف مع المالكي ههههههههههههههههههههه