أوس عز الدين عباسيمر العالم بتغييرات كبيرة وهائلة ، ويشهد ازدياداً متسارعاً في الحركة السكانية واختلاط الأعراق واللغات والعقائد والأديان والثقافات ، وذلك ناجم عن الهجرات البشرية الضخمة التي لم تعد تعترف بالحدود الفاصلة بين الدول ،
فقد حدث توغل سريع في أرجاء بلدان العالم في مختلف جوانب الحياة وهدم الحواجز الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القائمة بين الشعوب ، والتقدم العلمي والتكنولوجي في جميع مجالات حياتنا اليومية ، بما فيها تطور أساليب الاتصال نتيجة للثورة الإلكترونية وما يترتب عليها من تدفق المعلومات وسهولة التعرف على أحداث العالم ، ساعدت كلها على أتساع نظرة الإنسان إلى ذاته والى وضعه في العالم ككل ، بحيث جعله يشعر بأنه جزء مهم من العالم الواسع الفسيح المتنوع وليس مجرد مواطن بسيط يعيش ويحيا في مجتمع له مساحته الجغرافية الضيقة المحدودة .يبدو أن هذا الوضع الجديد اصبح من أهم الموضوعات التي تشغل بال اكثر المفكرين بالعالم باعتباره احد الملامح الأساسية المميزة للقرن الحادي والعشرين ، وان كان في نفس الوقت يثير كثيرا من الجدل حول النتائج التي سوف تترتب عليه ، نظراً لتعارضه الشديد مع ما اعتاد عليه المجتمع البشري من ظهور مفهوم القومية و تنظيم العلاقات الإنسانية والسياسية وفق هذا المفهوم التنظيمي ، وقد ساعدت على قيام هذا الوضع الجديد حالة الاضطراب الشديد وازدياد كثافة التناقضات الاجتماعية التي يعانيها المجتمع الإنساني المعاصر في العقود القليلة الماضية ، رغم المزاعم التي تهدف الى ردم الفجوة الاقتصادية والثقافية بين شعوب العالم وتوفير حد أدنى من التجانس وعلى جميع المستويات ، إذ يقابل ذلك في نفس الوقت ازدياد الميل لدى الكثير من هذه الشعوب الى التباعد الاجتماعي والسياسي والثقافي عن التأثيرات الخارجية وظهور نزعات محلية وإقليمية تعكس الرغبة في الانفصال والاستقلال تأكيداً للهوية الخاصة بها ، فثمة نوع من الازدواجية المتمثلة في محاولة التقريب والتنسيق القائمة على ترسيخ التجانس وإزالة الفوارق بين الثقافات والشعوب من ناحية ، وازدياد النزوع نحو الاتجاهات الانفصالية وارتفاع وتأجج النعرات العرقية من ناحية أخرى ، مما يجعل صورة المستقبل لدينا غير واضحة في كثير من الأحيان ، لكن هذه التناقضات لم تمنع الفرد العادي في المجتمع المعاصر من الشعور بقوة ارتباطه بغيره من البشر خارج حدود مجتمعه الجغرافي ، ومشاركته الآخرين والبعيدين عنه مكانياً في كثير من جوانب الحياة المعاصرة المعقدة وتعاطفه مع آمالهم وأفكارهم ومستقبلهم بدرجة لم تكن معهودة من قبل . الظروف الحالية المعقدة تقتضي إذن وجود أشكال وأنواع جديدة من التنظيمات والمؤسسات الاجتماعية والسياسة تتجاوز إمكاناتها و قدراتها حدود الدولة الحديثة ، وتعمل على توطيد وترسيخ مفهوم ما بعد القومية لكي يحل محل النزعات الوطنية والقومية التي تقوم على التعصب العرقي والديني ، وتكون بذلك مصدراً للصراع مع الآخر، مثلما هو حاصل حالياً في العلاقات المتوترة بين الدول ، لذلك سوف يواجه هذا الأتجاه الجديد مقاومة عنيفة كنتيجة طبيعية ومنطقية للرغبة بالاحتفاظ بالهوية الثقافية للشعوب التي تعتز بانتماءاتها القومية والوطنية ، وإن بعض المفكرين يذهبون الى أبعد من ذلك فيتصورون بأنه لم يعد في العالم الآن من يريد الاستقلال تماما ، لان العصر الحالي هو عصر التكتلات الكبرى ، وانه من خلال العقود القليلة القادمة سوف يشهد العالم قيام نظام ((هجيني)) جديد ناشئ عن تداخل الاعراق واللغات والديانات والمصالح ، نتيجة لموجات الهجرات البشرية الضخمة على مستوى العالم ، وإتاحة المزيد من الفرص للتعرف على الآخرين واحترام ثقافاتهم ، مما يؤدي في آخر الأمر إلى قبول الآخرين وتهذيب حدة النزعات القومية والوطنية التي تثير الشكوك والصراعات المتبادلة ، وواضح ان الشعور بضرورة الاعتراف بما بعد القوميات ومحاولة تنفيذها على أرض الواقع جاء استجابة لضغوط بعض التطورات التي حدثت في تسعينات القرن الماضي بوجه خاص ، مثل اشتداد وطأة تكنولوجيا المعلومات كوسائل قللت من التأثيرات السلبية للفوارق المكانية والزمانية بين الثقافات والشعوب ، لكنها تدرك مخاطر هيمنة التكتلات السياسية الكبيرة ، وازدياد الوعي بفاعلية تيارات العولمة بإيجابياتها وسلبياتها بالنسبة للكيانات الصغيرة .وعلى أية حال فإن التغيرات الاقتصادية والثقافية والسياسية تتضافر الآن للقضاء على النزعات الوطنية والقومية التي تعزز الانفصال والعزلة ، ويكاد مفهوم القومية التقليدي يفقد جانبا من مغزاه القديم ، ولم تعد الدولة من العناصر الأساسية في التماسك الاجتماعي وفي تحقيق درجة أعلى من التطور والرقي والتقدم التاريخي ، والظاهر أن الدولة القائمة على فكرة القومية تمر الآن بأزمة كبيرة ، وإن عمليات الهجرة على مستوى كوكب الارض سوف تؤدي الى استقلال الهويات عن الابعاد والعوامل المكانية والاقليمية والمحلية ، في عالم يتجه نحو التقارب نتيجة لاتساع نطاق الهجرات الجماعية وتدفق المهاجرين ورؤوس الاموال والتكنولوجيات والأيدولوجيات المتضاربة. &am
تضاؤل النزعة القومية والوطنية فـي عوالم الغد
نشر في: 27 سبتمبر, 2010: 06:26 م