تنبثق لوحة قاسم الساعدي (مقيم في هولندا) من وديعة شخصية يحملها تحت جلده هي عاطفته المتوترة كعراقي مثقل بأسئلة التاريخ، تاريخه الخاص على الأقل، لتظهر على القماشة بتجريب لا نهائي.
عرفت قاسماً منذ سنوات بعيدة، وإن كان قد سبقني بزمن قليل أقرب إلى الستينات، لكن روحه تشاكلت، وتشكلت، معنا نحن السبعينيين، لتتخذ لغتنا أشكالاً عدة، تتجاور وتتحاور، هو في الرسم ونحن في الكتابة، الشعر أبرزها.
هذه الأيام يحيي قاسم الساعدي بغداد من بعيد ويلقي عليها التحية مخضبة باللون والأمل ويلوّح لها من هناك: "صباح الخير يا بغداد".
تغيّر في قاسم كل شيء: أداته ورؤيته وموضوعه، فلم تعد اللوحة لديه يقيناً، بل صارت أسئلة، لأن الخيال أكبر من الواقع وأعلى منه، وهو التحدي المؤسي للفنان الحقيقي الذي لا ينقل الواقع على قماشته بل يفككه ويعيد تشكيله، وصولاً إلى معناه، أو لا معناه حتى.
لم تعد لوحة الفنان الساعدي تقليداً أكاديمياً ولا مشهداً تتكرر فيه الطبيعة أو أية أبعاد مألوفة عند النظر إلى الحياة والإنسان، بل تمثل لوحته تخليّاً غاضباً عن أي موروث أو وارثين، فمنذ سنوات منتصف الثمانينات عندما زرته في بيته (أوترخت) اطلعت على عدد من أعماله الجديدة، وقتها، اكتشفت أن قاسماً مغامر كبير لأن هذه اللوحات لا تمت بأية صلة لما عرفته عنه في العراق وبيروت ودمشق.
صار الفنان الساعدي، اليوم، يلعب بمهارة ملحوظة ليبلغ نهاية اللعبة، أو لا يبلغها، للعثور على لغة تشكيلية جديدة تنبثق من محلية التجربة من دون أن تكون أسيرة لها لتظهر أمام المشاهد الغربي بتكوينات تخاطب ذائقته بانفتاح ثقافي وذوقي واضح.
يختار قاسم عرض بعض أعماله في قبو للتعذيب تحت أرض متحف "خاودا" الهولندي، الذي جعله يطلق صخرة كتيمة: هذا "قصر النهاية" ليستعيد زمن القبو الرطب هناك في سبعينات القرن الماضي عندما حل معتقلاً شيوعياً في ذلك "القصر" ويعيد إنتاج أوجاعه وأوجاع جميع من تركوا تواقيعهم على جدرانه بالدم وما تتركه الأصابع من تحدٍّ.. فالمكان، على غرابته، مألوف للفنان لأنه مر بما يماثله، هناك، في وطنه البعيد.
يقول عن ذلك: "رغبت بالعرض في غرفة التعذيب وأيضاً على سرير السجين في زنزانته
تضامناً مع نفسي ورفاقي وكل العراقيين الذين مروا من هناك".
المتحف الهولندي كرّم قاسماً بأشكال شتى، مما أعاده إلى متحفه الأم، المتحف العراقي، وعن هذا يقول:
" دعاني متحف "خاودا" لإقامة المعرض منذ سنتين، وعلى خلفية دعوة المتحف الوطني العراقي ببغداد لي لإقامة معرض شخصي في فضاءاته، وذلك تكريم وحلم جميل جداً بالنسبة لي، لأنني تعلمت في هذا المتحف معنى العراقية الوطنية كإرث وعمق تاريخي، لأنني كنت أمضي الكثير من الوقت، هناك، أما في رسم المنحوتات أو في المكتبة للاطلاع على الكتب التي تضمها ... بكلمة أخرى، كان المتحف العراقي بالنسبة لي أم ثانية إضافة إلى أمي الأولى: أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد".
يضيف الساعدي: "المتحف الهولندي أصدر بهذه المناسبة كتاباً عن أعمالي (قيد الطبع) كما وقف وراء إنجاز فيلم وثائقي عني سيعرض في المتحف طيلة أيام العرض".
ثمة أسئلة كثيرة تطرحها تجربة هذا الفنان، سواء على نفسه أو متلقيه، لتضعه في قلب تجربة مركبة، ومتجددة، لتجاوز منجزه، كما أثبتت سيرته الفنية عبر سنوات طويلة من التغير والاختلاف والتجذر.