المدينة مجموع ومركب لعدد كبير من النظم ( Systems ) التي تتفاعل في ما بينها لخدمة المجتمع -وأحيانا المجتمعات- التي يقطنها والتي بنيت المدينة من أجله "من الأصح القول تبنى فإن عملية بناء المدينة لا يمكن أن تتوقف بأي حال من الأحوال ولا توجد عمليا ً مدينة تصل إلى حد تقف معه الحاجة إلى البناء". وفي محاولة للتبسيط من خلال المقارنة فان جسد المدينة يشبه إلى حد ما جسد الكائن الحي بما له من أنظمة عاملة كالنظام الهضمي والتنفسي والعصبي وغيرها، فان للمدينة أيضا ً أنظمتها كنظام النقل ( Transportation System ) ونظام تجهيز الماء (Water Supply Network ) ونظام المجاري ( Sanitary Sewer ) ونظام نقل المعلومات ( IT Network Systems ) ونظام تزويد الطاقة الكهربائية ( Electric Power System ) وغيرها من النظم، وبالرغم من محدودية عدد هذه النظم وتطورها ومعرفتها بشكل واسع فان تطور المدينة يثبت يوما ً بعد يوم بأن هذا العدد في تزايد مستمر، فهناك نظم جديدة ظهرت في القرن الماضي مثل نظام نقل الأنفاق ( Underground or Metro System ) عام 1890 وأخرى في العقود الأخيرة مثل نظام نقل المعلومات الأثيري ( Telecommunication System ) وبالذات الانترنت، بالاضافة الى نظم جديدة لاتزال غير معرّفـة تماما ً وغير محددة الملامح بالرغم من تبني الكثير من المدن لها كالهيكل الاخضر للمدينة (City Green structure )، ومن جانب آخر فإن هناك نظماً قد اندثرت أو انتفت الحاجة اليها كنظام التلغراف او في طريقها الى الاندثار كنظام خطوط الهواتف.
يقسم جسد المدينة ( City Structure ) إلى قسمين رئيسيين ،هما الهيكل الحضري ( Urban Structure ) والبنية التحتية ( Infrastructure ). ومن المفترض أن يكون التفاعل بين هذين الجزءين وبين النظم التابعة لهما أيجابيا ً وفي صالح المجتمع المستخدم لهذه النظم ،وهذه هي مسؤولية المخطط الحضري ( Urban planner ) ومشاركيه في التخطيط كالسياسي ( Politician ) والمخطط الاجتماعي ( Social planner ) وآخرين بالدرجة الاولى، ثم المجتمع والمواطن بالدرجة الثانية. إلا أن متابعة مايحدث في المدينة والدراسات التي تجري عليها تشير الى أن التعارض ( Conflict ) بين نظم المدينة أمر لا مناص منه ،وهنا يأتي دور المخططين مرة أخرى في حل هذه التعارضات أو التقليل منها، ولا يوجد هناك تعارض غير قابل للحل، ويكون دور المخطط ( إيجابيا ً ) في إيجاد الحلول الافضل من خلال قدرته على دراسة مشاكل المدينة دراسة علمية ووضع الحلول القابلة للتطبيق طبق هذه الدراسة، في حين يكون دور السياسي على الاغلب ( سلبياً ) في هذه الحالات من خلال التحديد ( Limitation ) أو المنع ( Forbidden ) وهو دور مطلوب أحيانا ً ،ولكن ليس دائما ً ولايجب أن يمنح حق الاولوية في التطبيق، فالاولى هو إيجاد حلول علمية مناسبة لحل التعارض الناشىء بين نظم المدينة المختلفة وفي حالة تنفيذها مع عدم القدرة على إعطائها سعة كافية على استيعاب التعارض بالكامل ،فيستعان بالحلول السياسية (غير التخطيطية ) للتحديد والمنع وفرض العقوبات و بشكل محدود زمنيا ً الى حين تطبيق حلول علمية عملية جديدة.
أن ضعف المخطِط في أيجاد الحلول المناسبة يدفع بالسياسي الى مليء الفراغ بالحلول السلبية (التحديد والمنع).
وكثرة التعارضات بين نظم المدينة هي أشارة واضحة الى ضعف التخطيط الحضري وعدم فعاليته.
كما أن وجود هذه النظم المدينية وأهمالها مع أمكانية أستخدامها يشير الى أنحدار ثقافة المجتمع المستخدم لها.
من الامثلة على ذلك أن أغلب مراكز المدن حاليا ً ( وبالذات بغداد ) تعاني من مشاكل أكتظاظ السيارات في حركتها من جهة وفي توقفها وسعة المواقف من جهة أخرى، وهو تعارض بين قدرة الهيكل الحضري ( مركز المدينة ) على تقبل وأستيعاب هذا العدد الكبير من وسائط النقل وبين نظام النقل على توفير المرونة الكافية لسرعة النقل وأنسيابيته ( Traffic Fluidity )، ولابد هنا من أن يسبق دور المخطط دور السياسي من خلال أيجاد شبكة شوارع كافية وملائمة وتحديد مداخل ومخارج حركة النقل الى المركز المديني من خلال أحصاءات دقيقة لحركة المرور في الايام العادية وأيام العطل ونهاية الاسبوع وساعات زخم المرور القصوى ( Rush Hours )، وأيجاد شبكة نقل عام ( Public Transport ) تغني عن النقل الشخصي ( Private Transport ) وترتيب الاولوية ( Priority ) بينها، وغيرها من الحلول بالاضافة الى أيجاد مواقف كافية قد تكون تحت الارض أو في أبنية متعددة الطوابق ( Multi-storey Car parks ) وحلول عديدة اخرى. وفي حالة عجز كل هذه الحلول يأتي دور السياسي في تحديد حركة السيارات مثل تحديد مدة الوقوف لساعات معينة، أو المنع مثل منع الشاحنات من دخول المركز المديني في أوقات معينة، أو فرض ضرائب على دخول السيارات ( Congestion Charge ) لهذا المركز في ساعات معينة وهو النظام المعمول به في العديد من المدن الكبرى منذ سنين.
إن مدننا في العراق حاليا ً تعج بالتعارضات بين نظمها العاملة مع ضعفها على العموم وقلة فاعليتها وبلا أستثناء، وهو أمر غالبا ً ما يؤدي الى هدر أموال طائلة من جهة، والى تعطيل نمو المدينة بكل نواحيه من جهة أخرى، بالاضافة الى أنه يؤدي الى خلق روح اللاأبالية لدى المواطن المستفيد والمستخدم لهذه النظم. فتعارض نظام شبكة المياه والمجاري مع نظام النقل عادة ما يؤدي الى إعادة بناء هذه النظم كلها في فترات أقصر بكثير من العمر المقدر لها ( Depreciation )، كما أن عدم فاعلية نظام النقل وعدم وصول نظم الخدمات الاخرى الى بعض أجزاء الهيكل الحضري للمدينة يؤدي الى عزلة هذه الاجزاء وانخفاض مستوى المعيشة فيها عموما ً وهبوط أسعار الاراضي والعقارات فيها ،والأهم من ذلك الى نشوء مجتمعات مصغرة معزولة داخل جسد المدينة العام ونشوء الطبقية والفوارق الاجتماعية بل وحتى إلى أرتفاع مستوى الجريمة ( Criminality ) وانخفاض مستوى الحالة الصحية للسكان ( Level of Health ) ،وهذا ما تشهده الآن الكثير من الاحياء المحيطة بكل مدن وسط وجنوب العراق، أما القرى هناك فإنها تشهد عزلة لا مثيل لها.
في ما عدا ذلك فإن هناك نظماً مدينية قد تبنتها مدن كثيرة منذ عقود عديدة ،مثل نظام المترو ولكنه مازال حلما ً بعيد المنال لمدن مليونية مثل بغداد، في حين بدأ العمل فيه مثلا ً في ستوكهولم – نفوسها أقل من مليون أو حوالي المليونين بأضافة ضواحيها – في دولة لاتخرج أرضها قطرة نفط واحدة، منذ عام 1950 بشكل غاية في الدقة والفعالية. وهناك نظم أخرى مثل نظام شبكة الدراجات الهوائية الذي يعطى أهمية خاصة في مدن عديدة في أوروبا و آسيا و أمريكا الجنوبية، لكنه ما زال نظاما ً لا تتبناه خطط التوسع الحضري في العراق وما زال نظاما ً مرفوضا ً أو غير مرغوب به اجتماعيا ً مع كثرة مزاياه وحسناته الاقتصادية والبيئية والصحية. يشير المخطط الدانماركي العالمي ( Jan Gehl ) الذي ساهم في تخطيط بعض مدن دول الشرق الأوسط كعُمان والإمارات إلى أن حوالي 48% من سكان كوبنهاكن يتنقلون من عملهم إلى سكناهم بالدراجات الهوائية.
وهنا لابد من الإشارة إلى مسألة غاية في الأهمية وهي إدراك المجتمع والفرد دور هذه الانظمة المدينية في تحسين المدينة، وأن هذه الانظمة هي بالأساس لخدمة المجتمع ورفع مستواه المعيشي. وتقع مسؤولية نشر هذه الثقافة على عاتق المخطط والسياسي والمسؤولين الآخرين، كما أنها وبالقدر نفسه تقع على عاتق الفرد ذاته في تقبل هذه الثقافة والعمل بها.
*مهندس عمارة وتخطيط حضري