لطفية الدليميشاهدت فيلم المخرجة الإيرانية الشابة سميرة مخملباف (الساعة الخامسة بعد الظهر) وهو الفيلم الحائز على جوائز عالمية، ومنها جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان 2003، أدهشني إيقاع الفيلم الشاعري منذ اللقطة الأولى للفتاتين الأفغانيتين المبرقعتين وحتى آخر لقطة لهما فيه، والفيلم أنشودة عذبة لتمجيد الحرية دون شعارات أو مزايدات أو تناول سطحي لمفهوم الحرية الإنسانية
كما تطرحه أفلام إيناس الدغيدي وتسوق فيه رؤيتها النمطية لمفهوم حرية المرأة وطموحاتها البطرة وتتناول هموم طبقة معينة في المجتمع تفضي الى تبني مفهوم هش عن الحرية وقصور وعي المرأة ، رؤيتان مختلفتان لمفهوم الحرية تقعان على طرفي نقيض مابين التداول السطحي الأقرب إلى الغوغائية الفنية الزاعقة، وبين التناول الإنساني والعقلاني المرهف في إطار فني راق. أحالتني مشاهد الدمار في فيلم مخملباف إلى ما حصل لبغداد بعد سقوط النظام وهيمنة العصابات والميليشيات المتطرفة على الشوارع ،وهو الأمر ذاته الذي جرى في افغانستان مع اختلاف طبيعة المجتمعات ، إلا أن المتعة الفنية وفتنة الجمال الآسر في فيلم مخملباف سحبتني من اجواء الخراب وسحرتني بجمال لقطاتها وكوادرها المبتكرة وبساطة القصة الإنسانية وإيقاعها الشاعري، برعت سميرة مخملباف في تقديم صورة مغايرة لتطور وضع المرأة في ملاحقتها لأحلام فتاة أفغانية كانت تقاد إلى قدرها كما تقاد البهائم ولا يسمح لها بالتعلم الا في ( الكتّاب) الذي يديره شيخ متشدد ، فإذا بها تخترق المحظور عبر -المعرفة والتعلم- وتتطور شخصيتها وتنمو تطلعاتها البسيطة لتتحول إلى تساؤلات عن إمكانات قيادة المرأة للدول.. يأخذها والدها إلى الكتّاب -بعربته المتهالكة التي يجرها حصان هزيل- وهي مغطاة ببرقعها، حيث تتعلم البنات المبرقعات جلوساً على الأرض المتربة وراء شيخ يدرسهن أولويات الدين حسب فهمه وتأويلاته القاصرة ، تهرب الفتاة يوميا من الباب الخلفي للمدرسة الدينية، وتذهب إلى المدرسة الحديثة فتخلع البرقع، وترتدي حذاء بكعب عال، وتضع الشال على رأسها، وتتقدم في تعلمها، تتحدث المعلمة عن موضوع الديمقراطية وانتخاب الرؤساء، تندهش الفتاة من الأمر، وتطلب المعلمة منهن أن يكتبن عن حلم يتمنين تحقيقه، فتكتب: حلمي أن أكون رئيسة لأفغانستان.. وفي المكان الذي تقيم فيه مع أبيها وزوجة أخيها المفقود ورضيعها العليل مع آلاف المهجرين في الخرائب، تلتقي شابا مهاجرا مثلها، وتسأله عن الأخبار فينبئها أن (بينظير بوتو) قد رشحت لرئاسة باكستان فتبتسم لنفسها (الحلم ممكن التحقق)، وتسأله كيف يصبح المرء رئيسا؟؟ يخبرها أنه يقدم خطابا يقنع الناس فينتخبونه.. وتسأله وماذا يقول الرؤساء في خطاباتهم؟؟ يقولون أشياء يفرحونهم بها، وتستمر الحوارات بينهما ويقرأ لها الشاب الشاعر قصيدة لوركا (الساعة الخامسة عصرا) التي رثى بها صديقه مصارع الثيران، وتظهر كخلفية للفيلم مؤداة بصوت انثوي شجي، ويقول لها اعتبري القصيدة خطابك الرئاسي وتدربي عليها امام الحشود .. منحت ثقافة المخرجة مخملباف موضوع المرأة أبعادا إنسانية قل نظيرها في الأفلام العربية والغربية، وأضفت على الأماكن الخربة والقصور المدمرة أبعادا جمالية، وجعلت همّ الحرية هدف بطلتها التي وعت محنتها و لم تستسلم بل تحايلت على العقبات لتحطيم الصورة النمطية عن عجز النساء وإبقائهن أسيرات لقوامة الجهلة الذين يقودون العالم إلى الخراب كوالدها .. تعتاش العائلة من عمل الأب على العربة، وهم في رحلة طويلة للبحث عن الابن والأمان المفقودين وسط الخراب والبراري، حاملين الرضيع العليل، وتمثل العربة المهلهلة التي تنتقل بنا من موقع بؤس إلى آخر، المعادل لثقافة الأب الذي يرى الحياة المعاصرة كفرا ،ويعتقد أن المدن ما عادت تصلح للعيش السوي فنساؤها مكشوفات الوجوه..لتحقيق حلم الفتاة، يصحبها الشاعر إلى مصور ويلتقط لها صورا ثم يلصقها على أروقة القصر المدمر، وتسأله لماذا علق صورها هنا؟ يقول لها ليتعرف إليك الناخبون، لقد تحقق جزء من حلمها وإن بأسلوب شعري افتراضي، أليست الأحلام قصائدنا المستحيلة..؟؟ تنهي المخرجة الفيلم وقد تحطمت العربة الهزيلة وكاد الحصان ينفق من العطش ويقوم الأب الشيخ بدفن الرضيع الميت -المستقبل- في الأرض القاحلة و جوار شيخ متشدد من طاليبان مات حماره في تلك الصحراء فعجز عن الوصول إلى اجتماع حكماء طاليبان (الجيرغا) غير عارف بدخول أميركا لأفغانستان منذ أشهر وسقوط نظام طاليبان.
قناديل: مفهومان للحرية فـي سينما النساء
نشر في: 9 أكتوبر, 2010: 07:35 م