عادل العاملبقدرِ ما يندر اللؤلؤ، تتألق اللؤلؤة، أيُّ لؤلؤة، في نظر الناس و تثير الدهشة، و بقدرِ ما يقلّ الشعر الجيد، تختال القصيدة الجميلة في رأس القارئ الذوّاق و تطرب لها نفسه، و بقدر ما تتراكم المجموعات الشعرية الضعيفة، تبرز مجموعة كمجموعة محمود النمر،
" بيوت بلا قبعات "، باعتبارها من النادر الذي يمكننا أن نسميه شعراً بالفعل خلال السنوات الأخيرة ! و هذا ليس تزكيةً مطلقة، بطبيعة الحال، لكل ما في المجموعة من قصائد، و تعابير، و تداخلات، و استطرادات، و مواطن قوة، أو مواطن ضعف قد تكون مواطن قوة في نظر غيري، و هذه هي حال الشعر. على أية حال. فالشاعر، أي شاعرٍ، يحاول في العادة أن يوصل فكرةً أو إحساساً أو معنىً أو صورة، فيكون اللفظ أحياناً على حساب المعنى، و أحياناً العكس، و هو أولى بتقويم ما اختلَّ لديه من تعبير، أو تفعيلة، أو وزن، في مسار تجربته الشعرية. و كل هذا وارد، بطريقة أو بأخرى، هنا أو هناك من إبداعات الشعراء قديماً و حديثاً. لكن وسط العماء الذي أدخلتنا فيه متاهات " قصيدة النثر " السائدة اليوم، و هذا ليس سُبّة و إنما هو تشخيص لحالة يسميها أصحابها تكثيفاً، أو تركيزاً شديداًً، أو لغطاً لا يفهمه إلا صاحبه، أو حتى صاحبه أحياناً، يمكننا هنا في " بيوت " النمر المكشوفة أن نتنشّق نسائم العراء الطبيعي الزاخر بالرؤى الصاخبة ، و الذكريات المريرةّ، و مشاهد الألفة التي غادرت منذ وقتٍ بعيد :[ أنا أستفيقُ إلى بكاءِ حبيبتي فتجرّني الأحزانُ و النهرُ الذي التهمَ الصراخو ليس في لَوذِ الحمائمِ يستغيثُ كما الجسَدْالأمُّ يتبعُها الولدْو تساقط الأرواحِ غيثٌ يستحيلُ إلى نثيث فتَمَثَّلي الوجعَ الذي قتلَ الحمائم و أنتَ يا وجعَ الجنوبِ غداً ستبقى سادراً للموتِ أو ضرعاً حلوب! .. ]و يشكل النازحون من الجنوب هنا هاجساً يسكن الشاعر و يستخرج من داخله المشتعل ما يستخرجه البركان من باطن الأرض، أو كل ما اختزنته السنوات لديه من اشتعالات و انطفاءات و تطلعات أجهضها رعب الطغيان الأهوج و استباحة الأرض و الإنسان في ذلك الجنوب الذي كان جميلاً مع التخلّف الذي هو فيه:[ النازحون من الجنوبو الطير في ركب اصطحاب الشمسِ ينفيه الشحوب و الحالمات، النازفات، الخارقات هوَ لا يزال يحنُّ للبرديّ مسكوناً بآهات اليشَنْ و تنافر الأسماك و الفالات و الصوت الجنوبيّ المدوّي ليلٌ طويلٌ في البكاء ليلٌ قصيرٌ في مغاواة النساء ليلٌ ترجَّلَ و انحنى و أنا هنا المنفي ُّأستلُّ الكآبةَ في المدن .. ] و لهذا الليل، الذي يذكّرنا بليل امرئ القيس بطوله و عرضه، التواءاته و كمائنه الغادرة المتربصة بالنفس الإنسانية المتأبطة خيراً، غير أن الشر كثير و أكثر منه الساعون إليه و أكثر منهم ضحاياه، و الشاعر يدرك مأزقه وسط الخراب الروحي المحيط به، و عليه أن لا يسمح لطيبته أن تجعل منه ضحية أخرى أو شهيداً بلا طائل :[ سأغادرُ ظلّي فبعضُ الموبوئين ينامون على كتفي و أنا لا أغفرُ حتى ذنبي حين ألوك لحومَ الظنّمأساتي أن أدخلَ بابَ الرحمة و الناسُ نُز و أقامرُ حتى في طبعي برغيفي الباقي تحت وسادة هذا العمر ... ]لا أظنني قلت ما يجدر قوله نقدياً في حق محمود النمر، فأنا لستُ إلا شاعراً مثله، و الشعراء لا يُحسنون إلا الكلام ، الجميل أحياناً، أو يتبادلون الأنخاب في صحة بعضهم بعضاً! و لهذا أترك هذه المجموعة الشعرية المختلفة أمانةً بين يدي الناقد الذي يحترم مهنته الفنية الجليلة ليجد لنا في " بيوت بلا قبعات " ما تهيّبتُ أنا أو قصّرتُ عن الكشف عنه في هذا المرور السريع، سواء كان ذلك سلباً أو إيجاباً، و هو في الحالتين كسبٌ ثمين للشاعر، و للناقد، و لمحبّي الشعر بوجهٍ عام.
عراء الرؤى الصاخبة .. فـي "بيوت بلا قبعات " لـ مـحـمـود الـنـمـر
نشر في: 15 أكتوبر, 2010: 06:46 م