TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > قصـــة قصيرة ..السؤال

قصـــة قصيرة ..السؤال

نشر في: 19 أكتوبر, 2010: 04:52 م

خوستو ارويوترجمة: عادل العاملأول شيء تلاحظه هو عيناه.مثل هذين البؤبين الناريَّين  ــ رد فعلك المباشر هو أن تتجنبهما، لكن الرجل العجوز يعرف ذلك، و هو يبقى ينظر إليك إلى أن لا يبقى لديك من خيار سوى الرد على نظرته، حتى حين ترغمك النار في عينيه على التعرف على وجوده، و ذاك كل ما هناك، ليس غير.
حتى قبل الدخول فعلياً إلى الكافتريا، يبدأ الرجل العجوز بالتماس اتصال نظري بالناس الآخرين. أولاً مع الزبائن على يمينه، الذين لم يكونوا قد أعاروه انتباههم، نظراً لكونهم مشغولين بالأكل أو الدردشة، ثم مع الندل على يساره الذين يقومون، و هم بالملابس البيض، بالتعامل مع الأطباق و إثارة شهيات الحضور بالتساؤل على نحوٍ ممتع : ما الذي تحب مع الروست ( لحم البقرالمحمّص )، الدجاج، أو لحم الخنزير .. رز، بطاطا، أم سباغيتي ــ ثم و هم يقدمون وجباتٍ ضئيلة تؤكد الغش و تشدد كذلك على تفاهة أي احتجاج : أود فقط أن أراك تذهب إلى البيت لتتناول الغداء في زحمةِ المرور الشديدة هذه و ترى إن كنتَ ستعود إلى العمل في وقت مناوبة ما بعد الظهر!و هكذا فادفع قدراً من المال، و كُل قليلاً، و اصبر على ذلك. ما الذي تحب مع الروست؟ لكن ليس هذا مع الرجل العجوز. فحالما يظهر عند الباب، يفقد الندل مزاجهم الطيب، شاعرين بالضغط و هم يقومون بالخدمة، و كل واحد منهم يصلّي رجاء ألاّ يكون عليه أن يخدم الرجل العجوز. إن ملابسه بسيطة لكن نظيفة . و هناك شيءٌ ما في الطريقة التي يبدو بها، شيء ما في بدنه النحيف يشير إلى أنه مستعد لأية مواجهة ــ في الحقيقة، أنه يتوق بشدة إلى واحدة.يلاحظ الرجل العجوز كيف يتعرف الندل على وجوده من الطريقة التي تتصلب بها أكتافهم و من فقدانهم المفاجئ الإيقاع، من افتقارهم إلى التنسيق في تقديم الصحون، و ملاعق الأكل، و الطعام. يلتقط الرجل العجوز عندئذٍ صينيته و يأخذ مكانه في الصف. يقف منتصباً، مشرفاً على منطقته، بينما هو يمسح بنظرته الكافتريا، و الندل، و لوحة الاعلانات بقائمة الطعام، و بيان الأسعار. ثم يتّخذ، ماشياً ببطءٍ، بتأنٍّ، خطوةً خطوة، وضعاً معيناً أمام النُّدُل، و يصبح تحديقه أكثر ناريّةً، و يعطي أمره بغلظةٍ مشيراً بسبّابته اليمنى إلى الروست. فيخطو  نادل بائس نحوه، و قد أصبح أسير نظرته، ليقدم له طبقاً بيده اليسرى و ملعقةً كبيرة بيده اليمنى. و في هذه اللحظة الدقيقة، يهبط صمتٌ عظيم فوق الصف بينما الندل الآخرون، المرتاحون الآن، يقدمون الخدمة لزبائنهم. يغمس النادل الذي يتولى خدمة الرجل العجوز الملعقة الكبيرة داخل المقلاة بالروست. و بمنتهى العناية، يستخرج رقيقتي روست، و احدة ... اثنتان.لا أكثر.رقيقتان : خفيفتان و شفّافتان.يصبح تحديق الرجل العجوز أكثر ناريةً، و يعطي أمره بغلظة مشيراً بسبابته اليمنى إلى الروست.فمن كل باون من الروست، يحصلون على مئة رقيقة و بأربعة دولارات للباون، و أربعة دولارات للطبق الواحد، و هكذا يبلغ ربح الكافتريا مليوناً بالمئة في هذا النموذج العظيم من الرأسمالية المتوحشة. لكن حين يتقدم النادل ليغمس الرقيقتين في الصَلَصة، ترتعش يده لأنه يدرك أن وقته قد حان.صمتٌ تام. الكافتيريا كلها : الزبائن، و الندل، و أمناء الصندوق يستجيبون للصمت الذي يأتي من الصف. تذهب ضوضاء الصحون و الخلفيات؛ تذهب ضوضاء الدردشة، و طلبات الروست، أو الدجاج، أو لحم الخنزير. تتوقف كل شوكة، و ملعقة، و سكين في الجو بينما تتوجه جميع الأنظار نحو الرجل العجوز و الصف الساكن الحركة.عندئذٍ يتعرف الكل على وجود الرجل العجوز و لا أحد يمكنه أن يقول إنه لا يراه، مجرد ظلٍّ يمر به الواحد. و حين تتخلى عيناه الناريتان عن الأرض لصوته ــ و هو صوت ليس بالعجوز على الإطلاق، و إنما هو بالأحرى صوتٌ يعود إلى الرجلٍ الشاب الذي كانه فيما مضى، و الذي هيمن سابقاً على الغرفة عند الدخول ــ ذلك الرجل الشاب في داخل جسمٍ عجوز يحطم صمت الكافتريا بالسؤال الذي لم يكن أحدٌ قبله قد تجرَّأ على صياغته :ــ " أربعة دولارات لهاتين الرقيقتين العاهرتين من اللحم؟ ".يصير الصمت أثقل في ما يبدو شبيهاً بفلمٍ توقف فجأةً : فعند كل مائدةٍ، تتوقف السكين عن قطع شريحة اللحم، و لا تُبتلَع اللقمة الممضوغة، أو تغادر رشفة الماء أو القهوة الشفاه. الشيء الوحيد الذي يتحرك هو عيون الزبائن بالمئات تروح و تجيء من الرجل العجوز إلى النادل، و من النادل إلى الرجل العجوز، منتظرةً الرد على السؤال الذي كان قد صاغه كل واحد منهم منذ أن فُتحت الكافتريا على الإطلاق، لكن خوفاً أو خجلاً، ظلَّ غير قادر على الإفصاح عنه.       لا يعود، و هو في الصف، و الصينية بيده، ذلك الرجلَ العجوز المزدرى من كل شخص ــ الرجل الذي كانوا يمرون به و كأنه شيءٌ بغيض، منتقدين إيّاه تقريباً حتى على الهواء الذي يتنفسه، على الحيّز الذي يُشغله، و ملتمسين منه تقريباً أن يموت، دفعةً واحدة و إلى الأبد، و بذلك يُمكن للشبّان أن يأخذوا مكانه. غير أن النادل لا يردّ. إنه حتى لا يجرؤ على التطلّع إليه؛ يستمر فقط في غمس رقيقتي الروست في الصلَصة. ثم، و في محاولة منه لإنقاذ نفسه، كملجأٍ يائس أخير من أجل استعادة حياته العادي

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

بغداد/ المدى تنطلق فعاليات الدورة الخامسة من معرض العراق الدولي للكتاب، في الفترة (4 – 14 كانون الأول 2024)، على أرض معرض بغداد الدولي.المعرض السنوي الذي تنظمه مؤسسة (المدى) للإعلام والثقافة والفنون، تشارك فيه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram