يتوهم كل من يصل إلى السلطة في العراق انه امتلك الزمن ماضيه وحاضره و ما سوف يأتي منه كما يزين له وهمه أن عليه واجبا سماويا مقدسا هو تطهير الماضي حتى ذلك الممتد إلى آلاف السنين من أية علامات أو معالم فنية أو تاريخية لا تمت إلى عقيدته الراهنة ويعتقد أنه مالك الحقيقة الوحيدة ومسؤول الحاضر و سيد الزمن المخلد ويتصرف وكأنه السيد المطلق على البلاد وشعبها وثرواتها مثلما توهم سابقوه .
ويحاول هؤلاء إيهام الناس بان مهماتهم تماثل مهمات الأنبياء ويوحون لهم أنهم المختارون لتصحيح مسار المجتمع وتقويم البشر وتعديل انحرافات التاريخ التي سبقت ظهورهم فيعمد كل حاكم جديد إلى إزالة النصب والتماثيل التي سبقت عهده ليكتب تاريخا جديدا سيقتلعه الحاكم اللاحق (كما يحاول الآن مسؤولو أمانة بغداد إزالة زنبقة الحرية من ساحة النسور) بينما تزهو مدن العالم التي تعتز بثقافتها ومبدعيها بنصب وتماثيل مرت عليها أنظمة حكم عديدة دون أن يزيلها أحد.
ويعمد المتسلطون - إلى تجريد المدن من أيما مواثل فنية او نصب لكراهيتهم للفن وإدراكهم أن الفنون تحفز شهوة الحياة وتحرض نداء الحرية في النفوس فيعمدون إلى مصادرة الفضاء العام الذي يمثل ذاكرة الشعب ليحجموا هوامش الحرية ويفرضوا هيمنتهم الأيدلوجية على الأمكنة ومن فيها وكأنها إقطاعياتهم الموروثة وملك سلالتهم، فتتحول المدن بأيدي هؤلاء إلى قفار خربة ومساحات كئيبة موحشة وكأن دورهم يتحدد في معاداة الفن والجمال وأناقة الأمكنة، وليس في تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين وتوفير الأمن والرعاية الصحية وصون الحريات.
تتمتع معظم مدن العالم بجماليات الفنون التي تعلن في ساحاتها العامة مشاهد جمالية او تماثيل لشخصيات عظيمة خدمت مجتمعاتها وأضافت لحياة البشر الكثير من المعارف والعلوم والفنون فلا تخلو مدينة أوروبية من نصب وتماثيل تنتمي إلى عصور سابقة تتجاوز أعمارها مئات السنين، وقد تمجد النصب عملا إبداعيا أو شخصية شعبية أو مشهدا أسطوريا، ففي وسط مدريد يشمخ نصب (دون كيخوته) بطل الرواية العظيمة التي أبدعها سرفانتس وفي باريس تجد الشوارع الرئيسة والفروع والأزقة تحمل أسماء مبدعيها المشهورين من كتاب وشعراء ومهندسين وفنانين ومغنين ومغنيات إضافة الى تماثيلهم التي تزين ميادينها، وتجد مدينة لييج الرومانية وقد تحولت إلى معرض دائم لأعمال الرسام (فازاريللي) الذي تفخر لييج بأنه أحد مواطنيها رغم هجرته الى فرنسا وتضم متحفا لأعماله في منزل طفولته وتزين لوحاته واجهات مبانيها وتحتضن ساحاتها نصبا من الفن البصري ( الأوب آرت ) الذي اشتهر به فازاريللي وتمتاز مدينة روما بأنها متحف مفتوح يقدم تاريخ الفن من عصر الرومان حتى يومنا هذا متعة للناظرين ، أما برلين و لندن وفيينا وزيوريخ وجنيف فإنها تزخر بالنصب والتماثيل لعلمائها ومفكريها وشعرائها وفنانيها وليس لسياسييها ورجال الدين وفي بودابست عاصمة هنغاريا تشمخ تماثيل شعراء نقشت على قواعدها اهم قصائدهم وعلى جدران مقهى الأدباء الأنيق بطرازه الباروكي صور شعراء وكتاب من القرون الماضيات ولا يمضي يوم على قاعات محطة قطار زيوريخ الفخمة دون معرض فني أو علمي أو توثيقي في حين تزين حديقة متحف الفن الحديث فيها منحوتة كبيرة للنحات البريطاني هنري مور وعمل متحرك مذهل للفنان الأميركي كالدر الذي قال : إن الفن المتحرك قصيدة ترقص على إيقاع الحياة المرِح ومفاجآتها فأين مرح الحياة في مدننا الحزينة؟
السلطة المستبدة والعداء للفن – 2 ..مدننا ومدن العالم والتماثيل والنصب
[post-views]
نشر في: 1 ديسمبر, 2012: 08:00 م
جميع التعليقات 1
نوري
مرحبا هنالك نية تكاد تكون مؤكدة تقضي بازالة نصب الحرية من بغداد لوضع جدارية ل------------