د. مهند البراك
لم يعد خافياً، أنه بعد أن سقطت الدكتاتورية بحرب خارجية، اجتمعت قوى معارضة صدام بأطيافها و حاولت أغلب قواها أن تطرح البديل بشكل جبهة سياسية تقدمية تضم كل القوى التي ناضلت و ضحّت على درب إسقاط الدكتاتورية، إلاّ أن إصرار قسم منها منذاك على أن يكون هو البديل لاغيره . . . تم التوصل إلى صيغة محاصصة انثروبولوجية كانت قوى عالمية و إقليمية تهيئ لها . .
في وقت ضاعت فيه الجماهير المُضيّعة . . بين كره الدكتاتورية و الفرح لسقوطها، بين كره الحرب و الاحتلال، و بين أن ماكان يحصل قد يكون لعبة جديدة بعد أن تكررت الانتفاضات و الحروب وحسمتها مواقف القوى الكبرى وأبقت على الحكم الدكتاتوري الشمولي . . حتى صار الشعب متغرباً عن دولته و عن بلاده و صار يلعن النفط الثمين لكونه سبب الدمار و الضياع، بدل أن يكون سبباً للرخاء و لعيش كريم أسوة بأمم و شعوب العالم . .
في وقت لايمكن فيه إغفال دور القوى العراقية و المواقف الشعبية و جهودها من اجل أن تتمكن من الإتيان ببديل عراقي للاحتلال الأميركي للبلاد، في طريق وعر زاد من وعورته نشاط القاعدة الإرهابية و التحالفات الإرهابية لفلول الدكتاتورية المنهارة، التي سارت على طريق (تحرير البلاد من الأميركان)، بالإرهاب و بتصعيد الروح الطائفية، موظفة المحاصصة الطائفية التي جاءت كبديل للدكتاتورية الظالمة التي انهارت . . و تسبب ذلك بضحايا هائلة من كل قوميات و أديان و مذاهب و ملل البلاد، ومن كل حَمَلة الفكر التقدمي التحرري بألوانهم و طالت كوادر البلاد العلمية و الأدبية و كفاءاتها المتنوعة، و خسرت بذلك البلاد الكثير من طاقاتها البشرية المؤهلة . .
و يرى محللون أن اختيار بدائل الهويات الانثروبولوجية و خاصة الطائفية و العرقية منها، كبدائل عن الأنظمة الشمولية التي سادت المنطقة . . اختيار اشتغلت عليه دوائر القرار العليا لملء الفراغات التي نشأت عقب انهيار القطبية العالمية الثنائية و محاولة تسيّد قطب واحد، لحرف النضال الشعبي و بالتالي أحزابه و قواه، عن وجهته الأصلية في التحرر و التقدم الاجتماعي و التمدن على طريق حياة أفضل . .
و كان من نتائج ذلك ـ و بالملموس من نتائج المحاصصة في البلاد ـ صعود فئات و أفراد لم يناضلوا يوماً من اجل مصالح شعوبهم و تكويناتهم . . بل و صعود فئات و أشخاص لم يحلموا يوماً أن يكونوا حتى (رجل كرسي) من كراسي الحكم، و لكن لنسبهم و (علو) انتمائهم العائلي وفق (البديل الجديد) و لسد شواغر بقيت فارغة بسبب الهوية الانثروبولوجية، و ليس بسبب الكفاءة و تراكم الخبر من التجارب المريرة في مواجهة الدكتاتورية الكريهة، و بالتالي القدرة على اتخاذ قرار وطني يخدم الصالح العام . .
في زمان تراكضت فيه الاحتكارات المتعددة الجنسيات تحت شعارات (الفوضى الخلاقة) و (عفا الله عما سلف) المفيدة لها لإعادة ترتيب و تصنيف أوراقها لتحقيق أعلى الأرباح . . الأمر الذي تبنته فئات داخلية انفتح أمامها طريق كرسي الحكم فاستبدلت أثوابها بأثواب المرحلة و مودتها، بهوياتها (الجديدة) . . لتحقيق أعلى الأرباح لها و لعوائلها على حساب الشعب بكل أطيافه . .
من جانب آخر ورغم حل الجيش و الدولة من الحاكم الأميركي آنذاك بريمر . . و لأهمية إنشاء وضع قانوني معترف به دولياً في بلاد النفط و المعادن . . تراكض الجميع و بتشجيع من فئات و أفراد وقوى مخلصة للبلاد، لتشكيل دولة مؤسسات و أجريت أول انتخابات في العهد الجمهوري و تم وضع أول دستور دائم جرى التصويت عليه رغم الإرهاب . . و رغم مآخذ و نواقص وثّقتها المحكمة العليا وحكمت لصالحها . . و صار للبلاد برلمان و حكم فيدرالي مثبّت دستورياً . والآن و بعد ما يقارب العشر سنوات . . تنمو و تتفاقم النواقص المذكورة آنفاً و صارت الصحف و وكالات الأنباء المحلية و الدولية تعجّ بكثرة ماكتب و يكتب عنها، و استمرت الاختلافات والخلافات و المشاكل القائمة . . بل و نمت رغم القليل الذي أنجز، و رغم الحلول المؤقتة التي أجلت الحلول الدائمة و ساعدت بالتالي على نمو تلك الخلافات و المشاكل . . بتشويه استخدام حكمة " كل شيء في وقته حلو " . .
حتى صارت الطبقة الحاكمة تبتعد عن شعبها بمكوّناته المذهبية و العرقية . . بالاتفاقات التي لايعلن عنها بين قادة كتلها المتنفذة، و بالاتفاقات الثنائية التي لايعلن عنها بين قادة كتلتين فقط من بين تيارات متعددة تتغيّر تحالفاتها، إضافة إلى استكتاب قادة كتل لإفراد متنفذين من كتلهم بأن يطيعوا قائدهم أو يفقدوا مواقعهم، وفق تصريحات ناطقين باسم تلك الكتل . . التي يصفها مطّلعون بكونها استهانة حتى بقيادات و أفراد الكتل ذاتها.
و صار الدستور برأي أوساط تتسع و كأنه صيغ لتأمين وجود قادة بعينهم لايتغيرون، و يبقون في مناصبهم الحكومية بعيداً عن تنفيذ مبادئ التعددية و سلمية تداول السلطة التي أقرّها الدستور . . ليس بين الكتل في ما بينها فحسب، بل و بين أفراد الكتلة الواحدة لتأمين التداول السلمي الأصولي لقيادة كتلة ما بين أفرادها هي، كأساس لابد منه لتأمين تداول السلطة بين الكتل . .
و يرى خبيرون أن ذلك (الضبط الفولاذي) لعدم شطط أفراد كتلة ما عن قائدها و الذي يدار من خارج البلاد كما تتناول الصحف و المواقع . . لن يضمن الثقة بين الكتل المتنفذة و بين أفرادها ذاتهم . . بل سيزيدهم جهلاً و بالتالي تعنتاً لا يُفرّغ إلاّ بنمو الروح العدوانية و الانتقامية و الاستبدادية، و زيادة روح الأنانية و يشجّع على الفساد الإداري و الاختلاس . . بدل بناء التجربة على أساس التعددية واحترام الآخر و التبادل السلمي للسلطة و إبعاد الجيش عن حل المشاكل السياسية للبلاد و إبقاء تفرّغه للدفاع عنها و ضمان سلامة حدودها من استباحة الطامعين .