قيس قاسم العجرش
بدلاً من التسعيرة ،قرأت في زاوية دكان بقال "جدول أرقام" بالطول والعرض وحتى بصورة مائلة وبعض الكلمات غير المفهومة..سألت عن هذه الأرقام هل هي تقويم ما أو أن لها علاقة بمواقيت الصلاة..أجاب البقال بصوت خفيض وهو يتلفت خشية أن يسمعه أحد :لا ..جماعة المسجد وزعوها وقالوا إنها تجلب الرزق !..ونحن ..تعرف..يعني ..نحترم المسجد و...الرزق على الله!
وأنا قلت أيضاً إن الرزق على الله لكن بعد أن أخرجت الكاميرا لتوثيق هذه الواقعة .
في المكتب،وضعت الصورة على الحاسوب وبدأت أتفحصها فلم أجد سوى تمائم و"أوفاق"وأرقام تعني طلاسم من تلك التي دأب المؤمنون بها على تأكيد ربطها بالدين والرزق !وهذا الذي لم يثبت حتى الآن.
على ذات سطح المكتب وضعتُ صورة الأوفاق"المفروضة فرضاً على البقال"إلى جنب صورة الطفلة ماغي ميلاد فايز وهي تمسك بضفيرتها التي قصّتها عنوة امرأة مُنقّبة في مترو الأنفاق وسط القاهرة.
هذا سؤال للدرس، ما العلاقة بين فرض الأوفاق وقطع ضفيرة ماغي؟
الحركتان متأتيتان من اليقين .
الانطلاق من الاطمئنان.
المضي في الفعل بلا مراجعة وبلا تساؤل،ولماذا يتساءل المُطمئن؟
لقد مَنحتِ المنظومة الترويجية الدينية السياسية المُعاصرة مستمعيها وأتباعها هذا الدرس المجاني الأول، لا تأبه لمن يجاورك فأنت على صواب.
ومن هنا كانت مظنـّـة القداسة التي تجتاح "المؤمنين" ،هي الوعد السياسي المحرك الأول لزعمائهم على درب مزيد من الصفاقة في عدم التمييز بين الحق والاعتداء، هؤلاء الزعماء يجيدون توزيع هذا الاطمئنان على الأتباع مثل توزيع البطانيات وصوبات علاء الدين وكارتات الموبايل عندنا،وفي مصر وزعوا نصف ورقة من فئة مئة جنيه على أن يأخذ النصف الآخر بعد الانتخاب،وهي كلها تبعث على الاطمئنان بأن الزعيم يمتلك مفاتيح الخزائن التي لا تنضب.
المرأة المنقـّـبة التي كانت تحمل مقصاً في المترو يروعها في باطن تفكيرها أن شعرها يتساقط من ضغط التغليف والحجاب وأن الحياة التي زهدت فيها"ربما مجبرة"كانت تبتسم للطفلة القبطية التي فقدت ضفائرها،ولماذا تخرج من البيت أصلاً حاملة المقص؟ !
كانت تحمل المقص بحثاً عن اطمئنان أكثر أنها على صواب ..بقوة المقص.
لكنّ للزعماء بُعداً آخر.
هؤلاء يفلحون حسب براعتهم في أن يحصدوا الفوائد من ضفيرة ماغي كما يحصدونها من اعتداء المُنقّبة(الذي دانوه بطريقة ملتوية) .ولكلٍ تفسير طالما أن اللغة هي شكل من أشكال الصلصال بين أيديهم. ومع ذلك فهم مستمرون في تمرير الأهواء ،دون أن يتلفظوا بها ،يمررونها إلى الدرك الأسفل من الأتباع ، تحديداً إلى أكثرهم جهلاً وانسحاقاً وقلة إدراك.
وحين وقف مرسي أمام صيحات جمهور الإخوان في مصر،"الشعب يريد تطبيق شرع الله" تحرك الانتهازي الذي فيه كسياسي إسلامي،يعني يستخدم الإسلام للسياسة،وصاح بوضوح "الرئيس ..يريد تطبيق شرع الله ..وهوة في كلام غير كده؟".
هذه الرسالة مرّت إلى المنقبة ذات المقص وإلى غيرها من ذوي السكاكين والبؤس في آن واحد، كما تمرّ رسالة فرض تعليق الأوفاق في الدكاكين مثل ماء منساب وتناسق متوائم مع صيحات "اللاءات" من المنابر والتي لا تعني عملياً سوى تحريض في موضع لا يدخله القانون بل سكت عنه لأنه في الأصل من الحريات.
الأتباع هنا مَحطوبون مثل خشبِ الصيف بانتظار بردِ الشتاء كي يحترقوا ويدفأ مرسي وطبقته ونسخه التي لدينا منها، ولنتذكر أن هؤلاء أبعد ما يكونون عن السذاجة التي صوّرتهم عليها السينما والمخيال الشعبي المستولد للطرائف.
الآن تتفرج الحكومة ..بل إن الأحزاب التي تناهض الحكومة وتنتقدها هي الأخرى تتفرج..حتى تلك الأحزاب التي تنتهج علمانية معينة أو مفهوماً مدنياً للحرية، لم تنطق هي الأخرى.
لكنّ أحداثاً مثل هذه يجب ألا تمرّ بالهيّن، أشعر "مطمئناً"أيضاً أن تقديم الاعتذار إلى ماغي فايز وهي المصرية البعيدة جداً عنّا سيساعد في وضع المشكلة ضمن إطار عام مشترك قد يكون هو مفتاح الحل.
ليس من المنطق تشغيل المباضع والعقاقير والعلاجات محلياً في هكذا مصائب لأن الفضح والتشهير وتبيان التفاصيل سيؤلّف القلوب والعقول على مواجهة الخطر،خطر ضياع المدنية هباءً .
لكن هل تدرك القوى النافخة في هذا الأتون أن النهاية ليست بالضرورة ستكون كما يتصورون؟ هل تدرك أن افتراض عيش الناس ككتلة واحدة يؤدون الصلاة خلف إمام واحد وتسير أحوال السوق وفقاً لتعليمات مُحتسب واحد، أن هذا ضرب من الخيال الروائي ؟
أظنهم يدركون أنهم بالأساس لا يمضون إلى آخر النهاية في المطالب ، وهذا هو الفرق الجوهري بين تنظيم القاعدة وسائر تنظيمات الإسلام السياسي وأحزابه.
القاعدة ليس لها مشروع للحكم وإن حدث واضطرت لذلك كما حدث في بعض مناطق العراق التي هيمنت عليها فهي تكتفي بإعادة الأمور إلى البدائية الحجرية ويساعدها النص الموروث في ذلك.
أما أحزاب الإسلام السياسي فالأمر معها يختلف ،إذ هي قد تـُـقنع جمهورها بضرورة احتمال شظف العيش ومماثلته للسلف الأولين وأنه ركن من الإيمان لكنها كأفراد وقيادات تسعى دائماً إلى حيازة رفاه السلطة وجاهها.
أيضاً النسخة العراقية هنا تأتي أفضل مثال،حرصت أحزاب المنابر على أن توزع كل ما هو عاطفي غير مرئي وتطلق له العنان بتوافق عجيب مع طبقة الدرك الأسفل من الأتباع ، كما كانت عمليات الحث هذه تمثل أكبر توسعة لهذه الطبقة وعملوا أيضا على زيادة عزلتها عن باقي طبقات الناس حتى يغدو الآخرون أقلية في المشهد،هذا التكنيك صنع المواطن "المؤمن"بمقاييس هادئة (كما تظن أحزاب المنابر)، مواطن همّه تفصيل جسدية الإيمان الوقائي الذي كان له مفعول السحر في إشاحة النظر عن المُستحقات المدنية لبناء دولة .
لا يُدرك معظم هؤلاء الأتباع أن العراق قد انحرفَ منذ فترة غير محددة عن مسار التأسيس للدولة ، ما هو موجود اليوم "أنقاضُ"جزءٌ منها يصلح لإعادة الإستعمال وآخرَ كثيرٌ ينبغي رَدمهُ وتكديسه في مكب.
وأثناءهذا التفاعل غيرالمسيطرعليه سنرى الكثير من الضفائر تقص بمقص لا يظهر حامله لأنه منقب(أقليمياً)والكثير من جرائم اللاءآت أو تلك المستندة لها(محلياً)ايضاً لن نعرف مرتكبها أبداً ،سيحدث هذا بتواتر الى ان يدرك المؤمنون أن جزءاً من إيمانهم جرى مصادرته على شكل حسابات مالية إستثمارية للزعماء تدور حول العالم لا يعرف بها أحد.