في العام 2005 اقتبست وزيرة الخارجية الأمريكية مصطلح الفوضى الخلاقة “Creative Chaos” من مجال الفنون إلى مجال السياسة لتوصيف ما كان يجري في منطقة الشرق الأوسط حينها بعد احتلال العراق. فالفوضى الخلاقة في نظرية الفن تصف ما يحدث عند تدمير أنماط ثابتة على أمل إنشاء أشكال جديدة نتيجة لهذه الفوضى الايجابية. وتحدثت العزيزة كوندي بثقة عالية بعبارات مثل "مخاض ولادة شرق أوسط جديد"، أو "مهما فعلنا، علينا أن نكون على يقين بأننا ندفع قدما باتجاه شرق أوسط جديد، وأننا لن نعود إلى الشرق الأوسط القديم" (الواشنطن بوست في 21/7/2006).
هذه الثورية كانت نتاجا طبيعيا للمرحلة الذهبية لليمين المحافظ الذي هيمن على إدارة بوش الابن الأولى ( 2000ـ 2004) والتي تميزت تبعا لمؤلفي كتاب "أمريكا وحيدة: المحافظون الجدد والنظام العالمي" بالملامح الرئيسة الآتية:
ـ نزعة لرؤية العالم من عبر ثنائية مصطلحي الخير/الشر.
ـ السماح بدور ضئيل للدبلوماسية.
ـ ميل لاستخدام القوة العسكرية.
ـ تأكيد على أفعال الولايات المتحدة أحادية الجانب.
ـ ازدراء للمنظمات الدولية .
ـ التركيز على الشرق الأوسط.
ولكننا نجد تغيرا كبيرا في هذه السياسة بعد إخفاق الولايات المتحدة في العراق، حيث تعود وزيرة الخارجية الأمريكية نفسها في ولاية بوش الابن الثانية (2004ـ2008) إلى تراث "الواقعية" الأمريكي التقليدي في السياسة الخارجية، والذي يركز على المصلحة والأمن القومي، بعيدا عن محاولة المزاوجة بين "القوة والمبدأ، ـ الواقعية والمثالية"، أو "قوتنا وقيمنا" كما كانت تقول كونداليزا رايس عند إطلاقها مصطلح "الفوضى الخلاقة"، الذي ينطوي على فكرة أن بناء دول ديمقراطية في الشرق الأوسط أو في العراق وأفغانستان هو "مكون ملحّ لمصلحتنا القومية" (مقالتها: " Rethinking the National Interest, American Realism for a New World إعادة التفكير في المصلحة القومية، الواقعية الأمريكية لعالم جديد" والتي نشرت في عدد تموز(يوليو)/آب (اغسطس)2008 في مجلة الشؤون الخارجية "Foreign Affairs").
هذا التغير في الرؤى انعكس بشكل واضح على إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي، ومقارنة سريعة بين "إستراتيجية الأمن القومي "National Security Strategy " المعلنة بين عامي 2002 و2006 ،وأخيراً 2010 تكشف طبيعة هذه التحولات كونها نوعية تختلف من استراتيجية مثلت الرد الأمريكي المباشر على أحداث 11/9، مع تكريس صعود فلسفة المحافظين الجدد Neo-conservative والتي شكلت جزءا أساسيا في سياسة إدارة بوش الخارجية. إلى استراتيجية أخرى عكست تراجعا كبيرا في دور المحافظين الجدد، بعد الفشل في العراق الذي وصل مداه مع الحرب الأهلية الصريحة، ثم الاضطرار الى الاستراتيجية الاخيرة والتي بنيت على أساس الانسحاب من العراق.
وفي هذه الأيام تعود العزيزة كوندي إلى استكمال مراجعاتها لسيناريو "الفوضى الخلاقة" وتكتشف ان أي محاولة لتغيير هذا الشرق الأوسط ستكون في غير صالح الولايات المتحدة الامريكية. ففي مقال أخير نشرته كونداليزا رايس في صحيفة الواشنطن بوست في 24/11/2012 تحت عنوان "سوريا دولة مركزية لإبقاء الشرق الأوسط متماسكا Syria is central to holding together the Mideast " ترى رايس أن ما يجري في سوريا من حرب أهلية قد يكون "المشهد الأخير في قصة تفكك منطقة الشرق الأوسط كما نعرفه، وأن الفرصة لإبقاء المنطقة متماسكة وإعادة بنائها على أسس أكثر ثباتا من التسامح، والحرية، والاستقرار الديمقراطي في نهاية المطاف تسقط من بين أيدينا". وبعيدا عن دقة الإحصائيات التي تقدمها رايس في مقالها لطبيعة التكوين الديمغرافي العرقي والطائفي في بعض دول المنطقة (البحرين، والعربية السعودية، والعراق، وسوريا)، أو تلك المتعلقة بالهوية (الفلسطينيون في الأردن)، والتي كانت المقدمة لكثير من الخطايا التي وقع فيها الأمريكيون في العراق في ما يتعلق بحجم المشاركة في السلطة مثلا، والتي ما زال العراق يعاني من تبعاتها حتى اليوم (تقول رايس إن الشيعة في العراق يمثلون 65% من السكان، وأن السنة لا تتجاوز نسبتهم 20%، وأن الكرد وبقية الأقليات تشكل الباقي الذي لا يتجاوز 15%). بعيدا عن ذلك ،ترى رايس أن هذه "الدول المصطنعة artificial states" ،كما تسميها هي ذات البنية الهشة والتي رسم حدودها البريطانيون والفرنسيون بعد الحرب العالمية الأولى، تواجه اليوم خطر التفكك بعد أن فقدت القبضة الحديدة التي كانت تمسك بها (وهي تستثني إيران ومصر وتركيا من بين هذه الدول بوصفها دولا ذات تاريخ طويل وهويات وطنية قوية).
وترى رايس أيضا في ما يتعلق بالعراق أن الدولة الجديدة التي أرادتها الولايات المتحدة فيه ذات "ديمقراطية متعددة الأعراق والطوائف" ما زالت مؤسساتها حديثة وهشة، وأن الصراع الطائفي الذي يؤطر المنطقة ككل، وتحديدا الصراع في سوريا الذي تراه ذا طبيعة طائفية، قد يدفع العراق إلى نقطة الانهيار من خلال استجابة الساسة العراقيين لإغراء التحرك نحو حلفائهم المنتمين إلى الطائفة نفسها من أجل البقاء، تقول رايس: "إذا لم يستطع رئيس الوزراء نوري المالكي الاعتماد على الولايات المتحدة فانه سيعتمد على إيران". وأن ما تسميه "الوعي الزائف false consciousness" للهوية الوطنية يتجسد اليوم في هذه المنطقة من خلال الشبكات الطائفية العابرة للوطنية، وتضرب مثلا لذلك بما تسميه "توحيد الشيعة تحت الراية الثيوقراطية لطهران" في كل من البحرين والعربية السعودية والعراق ولبنان. في مقابل الدعم السعودي القطري للفصائل السنية في سوريا. في النهاية تدعو رايس الولايات المتحدة إلى تتبع خطوات فرنسا وبريطانيا وتركيا في تدريب مجموعات موحدة وتسليحها بأسلحة دفاعية، فضلا عن النظر في إنشاء منطقة حظر جوي لحماية الأبرياء.وأن وزن الولايات المتحدة وتأثيرها مطلوب وأن ترك الأمر للقوى الإقليمية ذات المصالح غير المتطابقة مع المصالح الأمريكية لن يؤدي إلا إلى تفاقم الطائفية العميقة القائمة في المنطقة. وهي ترى أن مخاطرة وصول القوى المتطرفة إلى سوريا ما بعد الأسد هي أقل مخاطرة من انهيار نظام الشرق الأوسط، لأن المنتصر الوحيد في هذه الحالة هي إيران. وهي تحذر من "عقود من الشقاء والعنف في المنطقة" تجعل حالة الفوضى القائمة اليوم تبدو هدوءا مقارنة بما سيحدث. وتنهي رايس مقالها بالقول: "إن الحرب لا تنحسر في الشرق الأوسط، بل هي تتصاعد إلى ذروتها، وانتخاباتنا قد انتهت، وعلى الولايات المتحدة أن تتحرك الآن".
بتعبير آخر تبدو العزيزة كوندي هذه المرة مدافعا شرسا عن فكرة بقاء الشرق الأوسط "القديم" كما هو، بعيدا عن أية "فوضى خلاقة". وتدعو وبراديكالية أكبر إلى "الواقعية" الأمريكية في السياسة الخارجية. مع ملاحظة عدم وجود أية إشارة إلى التحولات التي شهدتها المنطقة بعد الثورات العربية، ومستقبل الديمقراطية المفترض في المنطقة!