بروكسل: فيصل عبد اللهالطريق الى مكتب بول دوجاردان، المدير الفني لقصر الفنون الجميلة (البوزار) في بروكسل، ليس بالطويل. إذ هناك ما يكفي من الأسباب الشخصية والإشارات والمعارف للوصول إليه. وقتها كان عليّ تدبر تفاصيل مناسبة الذكرى السنوية الثانية لإغتيال المفكر كامل شياع ووضع اللمسات الأخيرة على فقراتها. و إعداد الخطوط العامة لهذا اللقاء مع رأس مؤسسة أوربية غامرت بعرض نتاجات ثقافية وفنية عراقية تجاسرت عليها فتاوي التحريم مؤخراً في عراق اليوم.
كررت الأولى عنوان رسالة مؤثرة كتبها الراحل كامل شياع الى أبنه وحملت "حين نكون في بغداد"، وحضر إسم عاصمة السلام الى قلب أوربا للسنة الثانية. فيما جاء اللقاء، او جزءاً منه، بمثابة رد جميل وعرفان لما قامت به تلك المؤسسة. أما غايته الأولى فقد كانت بغرض التعرف على آليات عمل صرح ثقافي كبير والتعلم من تجربته.يقع مكتب دوجاردان في الطابق الثاني من بناية حديثة أحتلت مكان كنيسة قديمة. وعبر شرفته يمكن للزائر ان يرى مبنى قصر الفنون الجميلة من زاوية نظر مختلفة. ولكونه اللقاء الأول له مع الصحافة العربية، فقد خلع دوجاردان رداءه الرسمي. حرارة الإستقبال، وتقديمه فنجان قهوة بنفسه ممازحاً بانها للمدراء فقط، وأثاث مكتبه المتواضع أربكني قليلاً. أما مكتبته الصغيرة فقد كان كتاب "وقاحة الأمل" للرئيس الأمريكي باراك أوباما أبرزها."تأكد من آلة التسجيل"، وبإيماءة أقرب الى السينمائية، أشار دوجاردان بسبابته وإبهامه. لحظتها، وللأمانة، لم تسعفني الذاكرة السينمائية، بل قفزت إلى ذهني صورة كولن باول، وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق، وهو يجيب على أسئلة الصحافيين. تأكدت من عدتي وتركت لدوجاردان الحديث. فالرجل ما أن ينبس بكلمة حتى ينهال منه سيل تختلط فيه وقائع التاريخ وإنعطافاته، وصعود الطبقات الوسطى في بلده ودور الثقافة وتعبيراتها المتنوعة في البلدان التي مزقتها الحروب. ومحدثي لبق يجيد ربط الأشياء ببعضها وكأنها سلسلة طويلة من قصص نعيشها يومياً. أزاء كم المعلومات، وتشابك قضاياه وتواتر كلام محدثي، تحولت من دون إرادة مني الى مستمع صاغ الى قصة هذا الرجل ومؤسسته والى كيفية اختياره وبرامج هذا الصرح الثقافي والفني وخططه المستقبلية.rnقصر الفنون الجميلة بدأ دوجاردان حديثة من كنيته والمشتقة كما يروي من جنة عدن. صورة مشرقة لزمن سعيد، حمل منه عبق ماضي مكان كما تخيله الشاعر الفرنسي آرثر رامبو وأغراه في العيش فيه. إلا ان دوجاردان سرعان ما أنتقل الى ماض ٍ أوربي خالص. ذلك ان قصر الفنون الجميلة (البوزار) له قصة أقرب الى الرهان. والأخير لم يأت من مدرسة فكرية او سياسية او فنية، بل جاء من نخب رجال المجتمع المدني وعلى أيديهم تحقق ما كان. إذ ما أن إنتهت مطحنة الحرب العالمية الأولى حتى بدأت أوربا تتلمس جراحها وتتطلع الى أفق مستقبل بعيد. كانت برلين وباريس، وقتها، حواضر الثقافة الأوربية والحداثة بامتياز. وأيضاً، قطبي معادلة ثقافية وإبداعية تركت بصماتها الواضحة على مجمل فنون الإبداع. ما أثمر عن ظهور مدارس فنية وفكرية مهمة أثرت تاريخ أوربا الثقافي والفني. إلا ان البحث عن موقع وسط تجاذبات وإستقطابات شديدتي التعقيد، يتداخل فيها السياسي والفكري والثقافي، كان ما يشغل بال نخب مدينة بروكسل ومجتمعها المؤثرة وهاجس رجال أعمالها.إذا ما العمل؟ هنا بدأ التفكير جدياً بعمل يليق بثقافة بلد صغير وسط تقاطعات الكبار. لم يستغرق الوقت طويلاً حتى وقع الإختيار على المعمار البلجيكي النافذ فيكتور هورتا (1861-1947)، أحد أعمدة مدرسة الـ (آرت نوفو) الهندسية، بعمل تصميم مبنى تُحتضن في رحابة فضائه فنون الإبداع المختلفة. وبالفعل تم إنجاز التصاميم الأولية في العام 1920 وجرى إختيار الموقع. إلا ان رفض البرلمان البلجيكي تمويل هذا المشروع الطموح وتحمل تكاليفه المالية. ورافقه آخر، بحجة ان المبنى سوف يحجب رؤية الملك قاع مدينة بروكسل من قصره القريب على موقع المبنى المقُترح. أعاد الكرة الى مربع ملعب مقترحيّها، ما حدا بتلك النخب للمضي في مشروعها دون إنتظار العون المادي. فيما حور هورتا تصاميمه الأولية قليلاً ولتأخذ بنظر الإعتبار تحفظات القصر الملكي، وعبر تشييد 40 بالمئة من المبنى فوق الأرض. أما الـ 60 بالمئة المتبقية فقد كانت من نصيب تحت الأرض، ولتكون على شكل صالات موسيقية وفنية ومسارح وأخرى مخصصة للعروض السينمائية.ولكون هذا الصرح الثقافي، وبمرور السنوات، تحول الى علامة بارزة لواجهة أوربا الجديدة ولعاصمتها السياسية والاقتصادية. فان قضية اختيار من يقف على رأس هذا الصرح تتطلب قدرات إدارية هائلة وكفاءات مشهود لها ومعرفة واسعة بفنون الإبداع وضروبه المختلفة، فضلاً عن ملكة التسليع لشاغل هذا الموقع. ولو أضفنا الى ذلك، مهمة التنسيق مع 5 وزارات ثقافة محلية والإلمام باللغات الأساسية المتداولة ومن ضمنها ما يخص الأقلية الألمانية المقيمة في هذا البلد. وعليه، فان آليات اختيار الشخص تمر عبر إقتراح يقدم من قبل رئيس مجلس الوزراء، ويشفع بمصادقة ملك بلجيكا رسمياً لإسم شاغل هذا الموقع ولمدة ست سنوات قابلة للتجديد. لذا فان خدمات بول دوجاردان التي بدأت في العام 2001 مددت لفترة أخرى ولغاية العام 2013. أما وظيفة دوجاردان الأخرى فهي لا تقل مسؤولية وثقلاً عن الأولى، فهو المستشار الثقافي لرئيس المف
بول دوجاردان:شعارنا الإنفتاح على ثقافات العالم من دون الوقوع في فخ"البروباغاندا&
نشر في: 25 أكتوبر, 2010: 05:21 م