المشكلة الأساسية بين الديني واللاديني يجب أن لا تكون مشكلة عاطفية، يجب أن لا يكونوا أعداءً فيما بينهم، أبداً. على الأقل الصادقين من كلا الطرفين، فالموضوع في أساسه مرتبط بالآليات التي يستخدمها كل منهما في إدراك الوجود والإجابة على أسئلته الكبرى.
نحن جميعاً نتعامل مع الإطار الخارجي للمشكلة، فنعتقد بأن اللاديني يختار لادينيته، كما أن الديني يختار دينيته. لكن للمشكلة أغواراً أكثر عمقاً من الاختيار. فهناك وعي احب أن اسميه أنا بـ(الوعي الإنقلابي) وهناك الوعي المألوف، والفرق بين هذين النموذجين هو أن الأول لا يستطيع أن يستورد قناعاته من الآخرين، بل يريد أن يمارس عملية الاقتناع بنفسه، فلا يستطيع التسليم بفرضية ما، لمجرد أن الأكثرية تؤمن بصحتها. هو لا يستطيع أن يؤمن إيماناً تسليمياً، كما يفعل "الوعي المألوف" بل هو مريض بالشك ما يدفعه للبحث في صدق وعدم صدق القضايا التي يؤمن بها الآخرون.
وهذا الأمر ينجر على كل من يعاني من مرض الشك هذا، وهو مرض لأنه يجلب الأعداء، ويجعل الآخرين يعتقدون بأنك بالضد من عقائدهم، وسواء أكانت هذه العقائد دينية أو حتى علمية، فالفرضيات العلمية كثيرا ما تتحول، عند اصحاب الوعي المألوف من "العلماء"، إلى عقيدة يدافعون عنها وينافحون، بالضبط كما يفعل المتدينون، وقد يتهمون من يشكك فيها بالعمالة. هذا ما يثبته التاريخ.. فالذين تصدوا لغاليلو لم يكونوا متدينين كلهم، كما أن كثيراً من العلماء تصدوا لآينشتاين، ولدارون، مدفوعين بقلقهم على مسلماتهم العلمية، التي تعاملوا معها وكأنها عقائد مقدسة.
تنطلق هندسة أوقليدس عن جملة من المسلمات منها مسلمة التوازي التي تقول: "من نقطة خارج المستقيم يمكن رسم مستقيم واحد فقط مواز للأول" ومن خلال هذه المسلمة برهن اوقليدس على أن مجموع زوايا المثلث تساوي دائماً (180 درجة). هذه المسلمة بقيت صامدة مئات السنين، رغم أن أحداً لم يتمكن من البرهنة عليها، إلى أن جاء العالم الروسي لوباتشيفسكي (1793- 1856)، الذي برهن على إمكان رسم عدة موازيات للخط المستقيم الواحد من نفس النقطة. لكن ما الذي دفع لوباتشيفسكي إلى البحث عن برهان يثبت هذه المسلمة رغم أن الجميع يؤمن بصحتها؟ أو على الأقل لم يكتشف أحد أي خطأ في النتائج التي بُنيت عليها، وهذا بحد ذاته يكفي لإثبات صحتها. لكن هذا ما يقبل به اصحاب الوعي المألوف، ربما الوعي غير المريض بمرض الشك، الذي يرسم صاحبه علامة استفهام إزاء أي مسلمة لم يتم اثباتها بشكل يرضيه هو. وهذا ما دفع هذا الرجل لمزيد من البحث، فتمكن من أن يلفت النظر إلى أن هندسة أوقليدس صحيحة دائماً في "البيئة المسطحة"، أما "البيئة المقعرة"، فلا تَصْدُق فيها، وهكذا تمكن من اكتشاف هندسة جديدة، سجلت باسمه.
بمرض الشك هذا أصيب آينشتاين، ونيوتن، ودارون، وغاليلو، وبه أصيب الانبياء جميعهم، فسبب النبوة هو عدم قدرة النبي على التسليم بكامل مسلمات الشريعة التي يجدها سائدة في عصره، ما يدفعه لنقد هذه المسلمات، وهو السبب الذي دفع إبراهيم إلى الهجوم بفأس شكه على هيكل الوعي السائد في زمانه وتكسير أوثانه المقدسة.