الحرية ماديا تتمثل بالمرأة. والحرية معنويا تتمثل بالقانون. وبالانسجام بينهما يتعبد طريق الحرية. ولكن ليست المرأة باطلاق ولا القانون بإطلاق. وانما المرأة صاحبة السيادة على جسدها وعقلها ومصيرها. والقانون الذي يجعل الفرد مقدسا وحرا في تقرير مصيره، بمعزل عن أي إلزام متعارض مع العهد الدولي لحقوق الانسان.
لاشيء يخيف القوى الظلامية أكثر من المرأة والقانون. المرأة الحرة والقانون الإنساني. ولذلك فإن أول ما تفعله هذه القوى هو ملاحقة المرأة، تهميشها، تقليص حضورها في فضاء المجتمع، تدنيسها، تلخيصها بالإغواء، بالجسد المثير، بصورة الشاة الجاذبة والمغوية للرجل الذئب. ليس لدى الرجل ما يفعله اذا انفرد مع المرأة غير ان يأكلها. هو المجاعة وهي الطعام. هو الذئب وهي الشاة.
هذا هو جذر التصور الأصولي للعلاقة بين الجنسين. ولذلك فانه يصب كل قواه العقلية والعضلية من أجل تغطيتها، تحجيبها، حظر سفورها، اعتقال جسدها، افقادها الشعور بالأمان في الفضاء العام، تمهيدا لسجنها في المنزل. وكلما سيطرت الأصولية على السياسة اتبعت هذه الخطوات الى أن تتمكن من الغاء الوجه الأنثوي للمدينة.
في أقل من سنتين، بين 2003 و 2005 ، حدث ذلك في بغداد. تحولت الى مدينة ذكورية. وفي الحرب الطائفية بين 2006 و 2007، اختفت المرأة من المدينة، ومات القانون، وتحولت بغداد الى غابة. وبمر السنين اختفى وجه كان لبغداد، ولم يعد يظهر. ذهبت مدينة وحلت مكانها مدينة أخرى. هذا المنعطف يرصده مقطع غني من قصيدة للشاعر حميد قاسم يقول فيه:
"لقد انتهت اسطورتك الكبرى أيتها المدينة
مذ لم تعد هناك تنورات يرفعها الهواء بلطف
لتعيدها اصابع الفتيات، وهي ترتعش، الى الأسفل
هواؤك العاصف لم يعد قادرا على إزاحة الجبب والبنطلونات
هواؤك لم يعد قادرا أن يرينا القليل من النعومة والبياض
لا في ساحة الميدان، ولا في غيرها".
المقطع من قصيدة عنوانها "هذا أيضا سيمر". وحميد محق. كل ذلك سيمر. فالبشر قد ينعسون، ينامون، يُخدعون، يستسلمون، يتخدرون، يُستعبدون، ولكن فقط الى حين. ثم يصحون ويستيقظون. وعندئذ تظهر المرأة ويتحرك القانون.
في القاهرة اليوم انفتحت سيرة مماثلة. المرأة السافرة أصبحت مذعورة من الشارع. انطلقت موجة عاتية من التحرشات الجنسية. وصرت من النادر أن ترى سافرات في شوارع القاهرة. المساحات أمامهن تتقلص الى أماكن معينة يصلن اليها بالسيارات. انه "زمن الاخوان" و"السلفية". وأشد ما يلفت الانتباه فيه هو دفع المرأة الحرة الى الخروج من الشارع، واندفاع الحاكم الى الخروج عن القانون. جمهورهم يطارد المرأة، وأسيادهم دخلوا في معركة حياة أو موت مع القانون. أولئك يسعون لتحقيق السيادة الذكورية المطلقة في الشارع. والرئيس جعل من نفسه في إعلانه "الدستوري" المباغت إلها فوق القانون.
شارع بلا نساء وحكم بلا قانون. هذه هي معادلة "الاسلام السياسي". ومسودة الدستور التي صوتوا عليها تعزز هذه المعادلة، أولا من خلال خلوها من أي مادة حول حقوق المرأة، وثانيا من خلال مادة جديدة توسع معنى "مبادىء الشريعة" توسيعا يمهد لولادة الحاكم بأمر الله. والأمران فتحا أهم معركة في تاريخ العرب الحديث بين قوى الظلام وقوى الاستنارة. وبهذه المعركة يدخل "الربيع العربي" الى جوهر الحرية. فالحرية هي المرأة وهي القانون.